الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الناصح الأمين قد حذّر من الفتن بجميع أنواعها، فتن الشهوات، وفتن الشبهات، لكنا لو استعرضنا نصوص الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح لوجدنا أن فتن الشبهات الفتن في الدين والعقيدة هي الأخطر وهي الأنكى والأشد، وهي التي جاء النهي عنها أكثر من غيرها بإجمال، أما فتن الشهوات فقد جاء النهي عن مفرداتها: النهي عن أكل الربا، والنهي عن الزنا، والنهي عن الانغماس في الدنيا والافتتان بها، جاءت نصوص متواترة وكثيرة في النهي عن فتن الشهوات، لكن ما جاء في نصوص الكتاب والسنة عن فتن الشبهات جاء على سبيل التحذير من مناهج الشبهات وأهلها؛ لأنها تخل بالعقيدة؛ ولأنها مرض يصرف القلوب والعقول عن العقيدة وعن الحق، وأصحابها هم الذين وصفهم الله عز وجل بالأخسرين أعمالاً، قال تعالى:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:١٠٤] فأعظم أخطار فتن الشبهات التي هي مطاعن في العقيدة والدين أن أصحابها يظنون أنهم على هدى، ولذلك قال السلف: إن صاحب البدعة لا يتوب أو لا تقبل له توبة.
هم لا يقصدون أنه لو تاب لا يتوب الله عليه، فإن الله يتوب على من تاب من أي ذنب ولو كان الشرك، لكنهم يقصدون بذلك بأن صاحب البدعة وصاحب الضلالة لا يوفق للتوبة؛ لأنه يظن أنه على هدى، فهل يتوقع ممن يظن أنه على هدى أن يحرص على التوبة؟ بالعكس، المسلم الذي يُبتلى بالشهوة يعرف أنه وقع في ذنب، هذا هو الغالب، بل عامة المسلمين الذين يقعون في فتن الشهوات سواء كانت فتن الدنيا، أو فتن المعاصي، أو فتن الفسق والفجور، فإن أصحابها غالباً يعرفون أنهم ارتكبوا الموبقات، ولذلك تجد الذين يتوبون من هذا الصنف هم الأكثر، لكن صاحب الشبهة مريض القلب والعقل يظن أنه على هدى، فلا يسعى إلى التوبة إلا من بصّره الله عز وجل.
وجاء في النصوص الإشارة إلى أن عواقب فتن الشبهات ليست على أصحابها فقط، بل تعم الأمة، ولذلك الفتن في العقائد ابتلي بها غالب الأمة بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وبقيت فتن البدع والشركيات جراح غائر في جسد الأمة إلى يومنا هذا، وليعلم كل عاقل أن أعظم سبب لما تعانيه الأمة المسلمة اليوم من الذل والهوان والشتات هو الافتراق في الدين، الذي هو فتن الشبهات، والذي هو الخروج عن السنة والجماعة، وذكر عز وجل أن هذا سبب الفشل وذهاب الريح، قال سبحانه:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال:٤٦] فالأمة الآن تعيش أقسى ما مرّت عليه في تاريخها من مظاهر الفشل وذهاب الريح، والخذلان، وقلة البركة، والتناحر والتناطح؛ لأنها وقعت فيها الفرقة في الدين، والفرقة في الدين مع أنها أمر قدّره الله على جميع الأمم وعلى هذه الأمة، إلا أنه مع ذلك نهى الله عنه ويسّر العلاج والوقاية منه، وأعني بذلك الإشارة إلى شبهة كثير من الجاهلين وأصحاب العلمنة وما يسمون بالليبراليين وغيرهم، الذين يزعمون أننا نبالغ عندما نقول: إن الأمة افترقت، وأن الذين أوقعوا الأمة في هذا الحرج هم الذين خرجوا عن السنة والجماعة، وهم الذين استباحوا دماء أهل الحق والخير في كل البلاد التي فيها فتن وقلاقل إلى آخرها، يقولون: أنتم بهذا تفرّقون، نقول: نحن نحكي عن الواقع، ونريد للأمة أن ترجع إلى أسباب عزها بالاعتصام بالكتاب والسنة، يقول تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}[آل عمران:١٠٣]، إذاً: أعظم سبب الذل والهوان الذي أصاب الأمة، وتسلّط الكفار من اليهود والنصارى، وتسلّط أهل الأهواء والبدع الذين ينتسبون للإسلام، وهم ربما يكونون في بعض البلاد أشد نكاية بالأمة من الكفار أنفسهم، هو الفرقة في الدين، وأن الأمة لن تخرج من وهدة الذل والهوان والشتات والتقاتل إلا بالرجوع إلى مصدر العزة وهو الاعتصام بالكتاب والسنة، والالتفاف تحت لواء السنة والجماعة كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالفرقة واقعة من سنن الله، ووقوعها ليس حجة في أن نرضى بها، بل وقوعها يستلزم منا أن نعالجها، وأن نحذّر من بقي من بعض فصائل الأمة التي لا تزال على الفطرة، وأن نناصح الذين افترقوا، ونبيّن لهم وجه الحق، ونقيم عليهم الحجة، ونعيدهم إلى سواء السبيل، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر افتراق الأمم الماضية: اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، ذكر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة، أي: أن كلها سلكت مسلك الشبهات، وهلكت بالشبهات والضلالات والبدع، إلا واحدة، والهلاك هنا -وهذا ما ينبغي التنبه له خاصة عند طلاب العلم- لا يعني هلاك الخروج من الملة بالضرورة، ولا