ما المقصود بفتن الشبهات؟ المقصود بها كل ما يؤدي إلى بدعة أو ضلالة أو فرقة وخروج عن جماعة المسلمين، أهل السنة والجماعة، أو خروج عن السنة، وكل ما يؤدي إلى خلل في العقيدة أو المنهج الذي تمثله العقيدة، وكل ما يؤدي إلى خلل في المواقف تجاه مشكلات الحياة؛ لأن العقيدة الصحيحة الصافية كما أنها علم فهي كذلك عمل، كما أنها أمور اعتقادية علمية فهي كذلك أمور اعتقادية عملية، تتمثل بالأقوال والأفعال وبالمواقف، وهذا نجده في أصول العقيدة التي رسمها السلف الصالح على ضوء القرآن والسنة، نجدهم حينما تحدثوا عن العقيدة وحينما بينوها وشرحوها بيّنوها على أساس أنها تمثّل جميع أصول الدين، وجميع ثوابت الدين، وجميع مسلّمات الدين، سواء منها ما كان علمياً اعتقادياً كأركان الإيمان وما يتفرّع منها، أو ما كان منها عملياً كأركان الإسلام وما يتفرّع منها، ويدخل في هذا وذاك الأمور القولية الثابتة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كذلك بيّنوا الأصول والثوابت العملية التي هي الإطار العام الذي يحكم العقيدة؛ لأن أمور العلم والاعتقاد في قلوب الأفراد لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنه قد يتكلم بالحق المؤمن والمنافق، لكن يبقى محك الاختبار العمل والمواقف.
ولذلك نجد في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل المصالح العظمى من ثوابت الدين، مواقف المسلم تجاه المسلمين وتجاه غير المسلمين، وتجاه الحياة كلها جعل كل ذلك من العقيدة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، (من غشّنا فليس منا)، (عليكم بالجماعة) وأمر صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة، وأمر بالحفاظ على مصالح الأمة العظمى وجعلها من ثوابت الدين، وأمر بدرء المفاسد على الأمة، وبرفع الحرج عن الأمة، كل هذه من ثوابت الدين التي يجهلها كثير من أبنائنا في الوقت الحاضر؛ لأنها ما بُيّنت على الوجه الذي يتناسب مع مستجدات العصر، فقد كان السلف رحمهم الله في كل زمن يعرضون العقيدة بحسب النوازل؛ لأن العقيدة كما أنها ثوابت قطعية -وهي مقتضى نصوص الكتاب والسنة- فهي كذلك مفاهيم علمية وعملية ومواقف، وهي تطبيقات ضرورية لمقتضى الكتاب والسنة، ولذلك من الشبهة التي قيلت عن السلف: إن عقيدتهم فيها ردود أفعال، فهؤلاء زعموا أن السلف تكلموا في أمور الاعتقاد في القرن الثاني بأمور لم يتكلم عنها السلف في القرن الأول، ثم تكلموا عن أمور في القرن الثالث مثل: بدعة القول بخلق القرآن ونحوها، وبعض مسائل حول الصفات لم يتكلم عنها السلف الأولون في القرنين الأولين، فقالوا: هذا إحداث في العقيدة، نقول: لا، هذا ليس إحداثاً في العقيدة، هذا يعتبر من مواقف العقيدة تجاه الأحداث؛ لأن الإسلام دين شامل لكل زمان ومكان، والحياة دائماً فيها مستجدات، وأعظم وأخطر هذه المستجدات مستجدات العقائد والأفكار التي تقول بها الأمم والموروثة، في القرن الأول الهجري لم تكن هناك شبه كثيرة، لكن وجدت بعض الشبهات، فكان الكلام فيها بقدر ما تحتاجه الأمة، لكن في القرن الثاني اتسع الخرق بدخول الفلسفات ودخول مذاهب الأمم والديانات السابقة على المسلمين؛ بسبب الترجمات، وبسبب دخول أفراد من هذه الأمم إلى الإسلام ظاهراً، وحينما عرفوا العربية عرضوا مذاهبهم الباطلة على صورة مصطلحات إسلامية، فجاء مذهب القدرية وجاء مذهب المرجئة، ثم جاء مذهب المعتزلة، ثم جاء مذهب الجهمية إلى آخره، كل ذلك نتيجة إدخال العقائد الموروثة من الأمم الضالة على المسلمين من خلال أشخاص عرفوا كيف يكيدون للأمة، وهؤلاء أدخلوا عقائدهم وشبههم بمصطلحات جذّابة للشباب الذين عندهم عشق للأفكار الغريبة، فتلقفوا هذه الأفكار عن الفلاسفة وغيرهم، ثم صاغوها بصياغة تحمل مصطلحات إسلامية، فدخلت على أجيال المسلمين هكذا، فالله عز وجل سخّر السلف لحماية الدين، وسخّرهم للدفاع عن الحق، فاضطر السلف رضي الله عنهم أن يواجهوا هذه الوافدات بما يقابلها من مقتضى النصوص، فظهرت معان لم تكن ظاهرة في القرون الأولى؛ لأنها لم تكن موجودة في القرون الأولى، هذه إشارة عابرة إلى شبهة أن السلف قالوا بأشياء لم يقل بها من سبقهم، وأنهم في كل عصر يحدثون أشياء ليست ردود أفعال، ردود الأفعال هي العواطف التي لا تقوم على أدلة شرعية، ردود الأفعال هي الانتصار للرأي، كما ينتصر هؤلاء العقلانيون الذين أثّروا في عقول بعض شبابنا، هؤلاء هم الذين عندهم ردود الأفعال، أما السلف فإنهم يواجهون مشكلات العصر بما يتناسب مع مصطلحات أهله، بمقتضى النصوص والقواطع الشرعية.
فعلى هذا فتن الشبهات: هي كل ضلال أو بدعة أو شرك أو خلل في العقيدة والمنهج الثابت للسلف سواء كان علمياً أو قولياً أو عملياً، فكل ما يخل بهذا ويخرج عن أصول الاعتقاد عند السلف، فإنه يعتبر فتناً وشبهات.