قبل أن أتكلم عن مصدر التلقي عند العقلانيين على التفصيل أحب أن أشير إلى أمر لا بد من الإشارة إليه؛ خوفاً من الالتباس في الفهم، وهذا الأمر هو ما يتعلق بقيمة العقل في الإسلام، بعض الناس ربما يظن أننا إذا تحدثنا عن العقلانيين وعن منهجهم، وقلنا بأن مناهجهم منحرفة ربما يظن أننا بذلك نحجر على العقل الذي خلقه الله وأكرم به الإنسان، لا، ليس المقصود ذلك؛ لأن العقل من أكبر نعم الله تعالى على عباده، بل إنه مناط التكريم والتكليف، فالله تعالى إنما كرم بني آدم بالعقل عن غيرهم من سائر المخلوقات؛ فلذلك منزلته في الإسلام أعظم منزلة، والله سبحانه وتعالى كثيراً ما يشير إلى العقول والألباب والقلوب، ويجعلها مناط التفكير والتبصّر في أمر الله وخلقه وقدره، والتبصر في أمر الهداية والضلال، لكن العقل له وظيفته وله مجاله، فالله سبحانه وتعالى حينما خلق الخلق وميزهم بالعقول جعل لهذه العقول وظيفة كبرى وعظمى، بل جعل من وظائف العقل ما هو كفيل بكده وإتعابه إلى أن تقوم الساعة، وإليكم بيان ذلك: أولاً: أناط الله سبحانه وتعالى أمر الاجتهاد في النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها على ضوء مستجدات الحياة بالعقول.
والحياة كل يوم فيها مستجدات، والله كلفنا أن نستنبط الأحكام ونحل المشكلات من نصوص الشرع من الكتاب والسنة بعقولنا، فلذلك نجد أن مجال الاجتهاد لا يزال مجالاً واسعاً رحباً لم تف به عقول العباقرة حتى الآن، بل نجد أن المسلمين مقصّرون كل التقصير في استنباط الأحكام من نصوص الشرع في مستجدات الحياة.
إذاً: المسلمون بل وجميع البشر إلى الآن ما وظفوا عقولهم الوظيفة الكافية فيما كلفهم الله به، فَلِمَ يتطّلعون إلى ما لا يطيقون؟ ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى كلف العقول وأصحابها بعمارة الأرض واستعمارها بكل وسيلة مباحة.
وعمارة الأرض واكتشاف كنوزها وأسرارها، والنظر في خلق الله تعالى، وفي ملكوت السماوات والأرض، والتفكر الذي يؤدي إلى توحيد الله تعالى وتعظيمه والخضوع له وعبادته، كل هذا لا يتم إلا بكد العقول، فهذه وظيفة كبرى للعقول لم تف بها كاملة إلى الآن.
إذاً: فالعقل لا يزال مقصراً في هذا الجانب، فَلِمَ يتطلع العقل إلى ما لا يطيق؟ لِمَ يتطلع إلى أمر الغيب والغيب محجوب؟ لم يتطلع إلى أن يقول في التشريع، والتشريع إنما جاء به الله سبحانه وتعالى، والله أعلم بشئون عباده من خلقه؟ ثالثاً: من مجالات العقول التفكّر والنظر في حكم التشريع.
حِكَم التشريع لا نهاية لها، أو لا يمكن الوصول إلى غايتها على الإطلاق، لكن مع ذلك لا مانع للإنسان من أن يتفكر بعقله في حِكَم بعض التشريع؛ ليزداد إيماناً.
رابعاً: من وظائف العقل التمييز بين الخير والشر، وبين النافع والضار في الجملة.
فعلى هذا يكون العقل من أعظم الوسائل التي ترشد الناس إلى الخير وإلى الفضيلة، والتي بها يحققون الاجتهاد على هدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الوظائف للعقل وظائف كبرى وعظمى تغنيه عن أن يتطلع إلى ما لا يطيق.
إذاً: فكف العقل عن الخلط في الغيب ليس هجراً له إنما هو إشفاق عليه، فالله سبحانه وتعالى أشفق على عقول عباده حينما أخبرنا ببعض أمور الغيب التي لنا فيها مصلحة، وحجب عنا الكثير، فما أخبر الله به من أمور الغيب نؤمن به ونسلم، ولا نتطلع إلى تفصيلاته؛ لأننا لو عرفناه ما صار غيباً، والله سبحانه وتعالى امتدح الذين يؤمنون بالغيب، بل جعل قاعدة الدين والهداية هي الإيمان بالغيب:{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[البقرة:١ - ٣] فالخوض في الغيب ينافي الإيمان به؛ لأن الإيمان بالغيب يعني: التسليم بأن خبر الله صدق وحق، وإذا حاول الإنسان أن يخوض في الغيب فإنه غير مسلم بكلام الله ولا بخبره، إنما يكون مشككاً، والتشكيك في الغالب يهدم الدين والإيمان.