المصدر الأول: الاعتماد على العقل وهو أخطرها، بمعنى جعل الأفكار والآراء والأهواء العقلانية هي المعتبرة وهي المقدمة على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي المحكمة أيضاً، فإذا اشتبه عليهم أمر من أمور الدين فالحكم ليس هو قال الله وقال رسوله، لا، الحكم هو العقل! إن المقارنة بين العقل وبين كلام الله تعالى ليست طيبة؛ لأنه لا مقارنة بينهما، فكلام الله هو الحق والصدق، والله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير وهو الكامل له الكمال المطلق، أيقارن بنتاج العقل؟ العقل عقل البشر، والبشر ناقص، والبشر يعتريه السهو والخطأ والنسيان والخلل والضلال والوساوس والشكوك، فكيف يكون عقله هو المُحكَّم؟ لكن -نسأل الله العافية- انطمست فطرهم، وزالت عقولهم عقول الهداية، فأصبحوا يجعلون العقل هو المقدّس، مع أن هذا لا يتأتى من أبسط الناس الذي ليس عنده عمق في التفكير، فلو قلت له: ما رأيك أيهما نصدّق ونكذّب ما في عقلك أو كلام الله وكلام رسوله؟ سيضحك عليك ويقول لك: هذا الكلام لا داعي له، وربما يقول: هذا كفر، كيف تقول لي هذا الكلام؟ ومع ذلك ضل العقلانيون وانتكست عندهم المفاهيم، حتى ظنوا أن كلامهم وأقوالهم أقدس من كلام الله ومن أقوال الله.
إذاً: الاعتماد المطلق على العقل عندهم هو القاعدة، والعقل هو المُحكَّم، فلذلك فرّعوا على هذه القاعدة المنكوسة تفريعات منكوسة، فقالوا مثلاً: دلالة النقل والشرع ظنية، من قال: إنها ظنية؟ أكلام الله ظني؟ هذا نابع عن تصورهم للقرآن حينما قالوا بأن القرآن مخلوق، وحينما قالوا بأن القرآن إنما عبّر عنه بشر، فتجرءوا على أن يقولوا في القرآن وفي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، فقالوا: دلالة النقل والشرع ظنية، ودلالة العقل قطعية، كيف تكون دلالة العقل قطعية؟ لو نسأل أحد هؤلاء العقلانيين عن عقله: أتدري ما عقلك؟ ما يدري ما عقله، هذا العقل الذي يستخدمه سلاحاً ضد الحق لو نقول له: أين عقلك؟ لقال: والله ما أدري أين عقلي، ولو نقول له: كيف تفكّر أنت؟ لقال: والله ما أعرف كيف أفكّر، وأين روحك؟ والله ما أدري أين روحي، على أي شكل تكون الروح؟ والله ما أدري، إذاً: إذا كنت لا تدري عن نفسك يا مسكين ولا تدري عن عقلك ولا أين عقلك ولا كيف تفكّر، فكيف تقول: العقل قطعي والنقل ظني؟ إنها الضلالة، نسأل الله العافية.
فالإنسان إذا قُدّرت له الضلالة انتكست مفاهيمه، وكما قلت لكم: لو كانت العقول والعبقرية تنفع والذكاء ينفع لما وجدنا الهندي قبل أن يخرج إلى عمله الرسمي، وربما يكون في مقاييس الناس عالم ذرة قبل أن يذهب إلى المعمل يسجد لبقرة منتنة، ثم يذهب ليشتغل في محل عمله، وتجده إذا مر من عند بقرة بالسيارة في الشارع وقف، ولو حتى أدى هذا إلى الحادث تقديساً للبقرة، نسأل الله العافية! أهذا نفعه عقله؟ إذاً: إذا كان النقل بزعمهم ظني والعقل قطعي، وتعارض ما في أذهانهم مع كلام الله ورسوله فالمقدم ما في أذهانهم، كذا زعموا.
فمن هنا انتكست كل علومهم وكل أحكامهم، وجاءوا بما خالف منهج السلف وعقيدتهم، ووقعوا في أمور كبرى في الدين أخرجتهم عن السنة والجماعة، بل أخرجت بعضهم عن الدين، فأنكروا أسماء الله وصفاته بعقولهم.
نحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى له أسماء وصفات في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نؤمن بها كما جاءت على ما يليق بجلال الله سبحانه، لكن العقلانيون لم يسلموا، وقالوا: لا، نحن عقولنا لا تؤمن بهذا، فأنكروا الأسماء والصفات، وبعضهم لم ينكر الأسماء والصفات وإنما أولها، ومعنى التأويل أن يقول: أنا لا أفهم قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] فلابد أن أؤولها، مع أن هذا كلام الله عن نفسه، والله سبحانه وتعالى يستوي على العرش استواء يليق بجلاله لا نعلم كيفيته؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فهو سبحانه وتعالى ليس مثل مخلوقاته ولا مخلوقاته مثله، ولا يتوهم ولا يخطر على البال أن نتصور لله صورة أو هيئة، وما نتصوره في أذهاننا ليس هو الله، وليس هو من صفات الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فهم عكسوا القضية فجعلوا ما في أذهانهم هو الصفة، فلذلك أولوا الصفة، هذا بناء على هذه القاعدة، ثم تجرءوا على إنكار الرؤية، فقالوا: أن المؤمنين لا يرون ربهم في الجنة يوم القيامة، لماذا؟ قالوا: لا يُعقل هذا.
وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، بل أنكروا شفاعات الأنبياء والمؤمنين والصالحين، وأنكروا الشفاعات التي ستحدث يوم القيامة بعد إذن الله ورضاه، قالوا: لا شفاعة؛ لأنه لا يُعقل أن الذي يدخل النار يخرج منها، ينبغي أن يأخذ جزاءه إلى الأبد، كل ذلك بعقولهم فقط.
ثم اعترضوا على دين الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة، صار ميزانهم عقولهم، ما حلا لهم من التشريع والأحكام والعقائد أخذوا به، وما لا يحلو لهم ردوه، ولذلك هم لا يتورعون عن تكذيب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءتهم شبه من الشيطان، فالشيطان دائماً يدخل على