الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن موضوع هذه المحاضرة من الموضوعات الملحّة في هذا العصر، وفي هذه الظروف التي يعيشها المسلمون في جميع أقطار الدنيا عامة، وفي هذا البلد بخاصة، التي هي بلاد السنة ومهبط الوحي، بلاد الحرمين، البلاد التي نحسبها -إن شاء الله- لا تزال تحكم بشرع الله عز وجل وتتحاكم إليه، وإن وجدت كثير من الأخطاء والتجاوزات، ونسأل الله أن يعفو عنا جميعاً، لكن يجب أن نتحدث بنعمة الله، ومن هنا أؤكد أننا كغيرنا من عامة المسلمين نتعرض إلى مخاطر كبرى قد نختلف ويختلف كثيرون في ترتيب هذه المخاطر وما هو الأهم منها، لكن أحسب أننا -أعني طلاب العلم المعنيين بالعلوم الشرعية- لا نختلف في أن أخطر ما تتعرض له الأمة هو التشكيك بعقيدتها ومسلماتها وثوابتها، وهذا التشكيك الآن ينحى مناحي خطيرة ومؤثرة، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى الأمة بمجموعها، تستهدف أغلى ما تملك الأمة وهو الدين والإيمان والفضيلة.
أول مظاهر ذلك: الهجوم الإعلامي العنيف -بكل معاني الكلمة- الذي يركز على هدم المقومات للأمة، ليس مجرد التأثير السلبي كما يعبّر البعض، بل أصبح هذا الهجوم الشرس العنيف يستهدف هدم وتقويض أغلى ما تملكه الأمة، وأول ذلك العقيدة والدين، ثم ما يستتبع ذلك من مقومات العزة يستهدف الأخلاق، ويستهدف الجماعة والكلمة، ويستهدف الأمن، ويستهدف القلوب والعقول، والأموال والأعراض، وليس من المعقول أن نتصور أن أعداء الأمة يقفون عند حد في النكاية بها، هذا أمر لا يتصوره عاقل، وإن وجد من بعض المغفلين، لا يتصور أن أعداء الأمة يقفون عند حد، بل لا بد أن يحققوا أغراضهم الكبرى التي نوه الله عنها، يقول الله عز وجل وهو أعلم بما في قلوب العباد، وهو أعلم بشئون الخلق، يقول سبحانه:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة:١٢٠] قد يكون لهم هدف اقتصادي، لكن لا ينتهون عنده، قد يكون لهم هدف سياسي، لكن لا ينتهون عنده ولن ينتهوا، وما هذه المظاهر التي نرى منها: الانتهاك الصارخ لمقومات الأمة من خلال انتهاك بعض دول المسلمين، ما هذا إلا نوع من الحرب الاستباقية التي تريد أن تحول بين الأمة وبين نهضتها، والمسلمون عموماً وأهل السنة على وجه الخصوص يعيشون في العقود القريبة الماضية نهضة رائعة، نهضة مبشرة بالخير في جميع بقاع الدنيا، لا سيما حينما تفطّنوا باستخدام الوسائل الحديثة في خدمة الدين ونشر رسالة السلام والأمن بين البشرية، حينما بدأ المسلمون عموماً وأهل السنة يستفيدون من الوسائل الحديثة إعلامية ومؤسسية في نشر الحق وتثبيت العدل بين الأمم، من هنا سيطر الخوف على أعداء الأمة، ومن هنا أيضاً قاموا بما قاموا به الآن تحت ذرائع كلها تبيّن أنها ليست مجرد واهية، بل ذرائع مكذوبة ومصطنعة، فكل الذرائع التي دخلوا بها العراق لم يوجد منها شيء، وارجعوا بأذهانكم إلى ما قبل سبع أو ست سنوات، لن تجدوا مما تذرعوا به في التدخّل السافر والاحتلال المباشر الذي استهدف المسلمين في أغلى ما يملكون لم يكن له مبرر واحد.
إذاً: يجب أن يعي المسلمون الحقيقة، وأن يستعدوا لأن تجتمع كلمتهم ويرجعوا إلى الحق، ويتركوا مظاهر الشتات والفرقة والتنازع، والله عز وجل نهانا عن ذلك فقال:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال:٤٦] فعلى هذا نقول: أعظم سبب للفشل هو هذا التنازع والفرقة في الدين، والخروج عن مقتضى الإسلام والسنة، ولن تعود الأمة إلى عزها إلا بالاجتماع على السنة، ولا يعني ذلك كما يزعم بعض جهلة الكتّاب وبعض جهلة المتحذلقين والمتكلمين أن هذا يعني أننا نسعى إلى إقصاء الآخر، لا والله، ولكن نسعى إلى إنقاذ الآخر من الهلكة، لسنا حريصين على الإقصاء، فهذا منهج نعوذ بالله منه، فنحن حريصون على الهداية، وعلى جمع كلمة الأمة على كلمة، سواء على الكلمة التي أرسل الله بها النبيين كلمة التوحيد ونفي الشرك، كلمة اجتماع المسلمين واجتماع الأمة على الضوابط والثوابت والمسلمات التي هي معقد الدين، ومعقد الاجتماع، ومعقد الأمن والسلامة، ومعقد القوة والعزة، ولن تعتز الأمة وترجع إلى عزها إلا بهذه الثوابت والمسلمات، وليست المسألة مسألة فرض رأي على الآخر كما يزعمون، ومن هنا سأناقش هذه القضية: ما هو الرأي والرأي الآخر؟ هل يدخل في ذلك أركان الإيمان والإسلام، ومسلّمات الدين والفضيلة، والحفاظ على الكرامة، والحفاظ على صيانة المرأة، والحفاظ على الأجيال والشباب؟ هل هذا مما فيه رأي ورأي آخر؟ كل أمة لها مسلمات وثوابت تدافع عنها وتبذل في سبيلها مهجتها ودماءها، ونحن يُستكثر علينا أن نثبت على ديننا، وليس فقط ندافع عنه، يُستكثر علينا أن نثبت على الدين الحق، ويق