[وقوع الأمة في الافتراق]
المسألة الثالثة: وقوع الأمة في الافتراق.
هذه المسألة محسومة بأمور: الأول: الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الافتراق في هذه الأمة، من ذلك حديث الافتراق: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، هذا حديث مشهور للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه جمع من الصحابة، ورواه أيضاً الأئمة العدول الثقات في السنن، كالإمام أحمد، وكـ أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان، وأبي يعلى الموصلي، وابن أبي عاصم، وابن بطة، والآجري، والدارمي، واللالكائي.
كما صححه جمع من أهل العلم، كـ الترمذي، والحاكم، والذهبي، والسيوطي، والشاطبي، وأيضاً للحديث طرق حسنة كثيرة جداً بمجموعها تصل إلى حد الجزم بصحته، هذا أمر، وأمر آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخبر آخر: أن الأمة ستتبع الأمم السابقة، وهو الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة).
الثاني: هذا الحديث أيضاً فسر بنصوص وألفاظ كثيرة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، وقوله: (شبراً بشبر وذراعاً بذراع)، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر على سبيل التحذير أن الأمة ستقع في الافتراق حتماً، وأن وقوعها أمر واقع يبتلي الله به هذه الأمة، وليس وقوع الافتراق ذماً إلا للمفترقين، ليس هو ذماً على الإسلام، ولا ذماً على أهل السنة والجماعة وأهل الحق، إنما هو ذم للمفترقين، والمفترقون ليسوا هم أهل السنة والجماعة.
أهل السنة والجماعة هم الباقون على الأصل، وهم الباقون على الإسلام، وهم الذين أقام بهم الله الحجة على الناس إلى قيام الساعة.
إذاً: الافتراق واقع حتماً، وهو أمر حتى لو لم يشهد به الواقع، وتشهد به العقول، فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق وألفاظ عديدة؛ لذلك ورد التحذير منه، وإذا كثر التحذير دل على أن الأمر واقع أو سيقع.
الثالث: النصوص الواردة تتضمن التحذير، من ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:١٥٣].
وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية شرحاً بيناً مفصلاً، بأن خط خطاً طويلاً مستقيماً ثم خط خطوطاً تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه، فقال: إن هذا صراط الله، وهذه السبل هي التي تخرج عن الصراط المستقيم.
وكذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن التنازع فقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:٤٦].
وكذلك توعد الله سبحانه وتعالى الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:١١٥]، نسأل الله العافية.
وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب أحكاماً على المفارقة بدليل أنها ستقع، إضافة إلى إخباره عن الخوارج، وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة، وأنهم يمرقون، والمروق لا يعني الكفر والخروج من الملة قطعاً، إنما المروق من أصل الإسلام الذي هو جماعته، والسنة التي عليها أهل السنة.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المفارق للجماعة، وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مفارقاً للجماعة مات ميتة جاهلية، وأن الفرقة عذاب، وأن الشذوذ هلكة، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل على أن الفرقة واقعة، والتحذير منها لم يكن عبثاً؛ إنما لأنها ستقع ابتلاء، ولا تقع إلا والناس على بصيرة، يعرفون الحق وهو موجود في الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ويميزون بين الحق والباطل، فمن اهتدى اهتدى على بصيرة، ومن ضل ضل على علم، نسأل الله العافية.