للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الخشوع]

أول مظاهر التدين في الحقيقة: الخشوع.

والخشوع: هو استكانة القلب والجوارح لله عز وجل، استكانة تظهر آثارها على حركات الإنسان وتصرفاته وأفعاله، ويتجلى هذا بأمور ظاهرة: أولها: بالقرآن الكريم، فإذا أردت أن تختبر قلبك ومدى خشوعك فانظر مدى تأثر قلبك بآيات الله المقروءة، فالقرآن هو كلام الله الذي لو أنزل على جبل لتصدَّع من خشية الله، هذا القرآن كلام الله الذي فيه الأوامر والنواهي والمواعظ والعبر والقصص، وفيه الوعد والوعيد، فإذا شعر المسلم عندما يسمع آيات القرآن بالخشوع والتأثر فليبشر بخير، وليعلم أنه تحقق فيه معنى من معاني التدين.

ثم الخشوع في الصلاة، وهو اختبار حقيقي جلي، فمن أبرز آثار الأعمال القلبية: الخشوع، ومن أبرز مظاهر الخشوع بعد التأثر بكلام الله: الخشوع في الصلاة؛ ولذلك نجد في النصوص في القرآن والسنة أنه وصف عمل الصلاة بالإقامة، وأن تقيم الصلاة: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:٥٥]، لا إلى الأداء؛ لأن الأداء يستوي فيه المؤمن والمنافق، وكل يؤدي الصلاة، لكن لا يقيم الصلاة إلا من تحقق فيه معنى التدين.

وأول مظاهر إقامة الصلاة: الخشوع فيها.

والصلاة الخاشعة أيضاً لابد أن تثمر؛ لأنها لا بد أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، ونجد معاني هذا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيمه لقدر الصلاة، وفي أثر الصلاة في نفسه وروحه وقلبه ومشاعره وعواطفه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة قرة عين، كما ورد في الحديث الصحيح: (حبب إلي من دنياكم الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وقرة العين هي منتهى السعادة، والأم إذا أرادت أن تصف حبها لابنها لا تجد أفضل من كلمة: يا قرة عيني! لأنها في منتهى السعادة والحبور والمحبة لابنها.

كذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما استشعر معنى الصلاة وخشع في الصلاة قرت عينه، وشعر بأمن القلب وسعادة النفس وطمأنينة الروح وهدوء الجوارح، وزوال التعب والنصب الجسدي والقلبي؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بالصلاة يا بلال!) لا كما يكون من كثير من حالنا نسأل الله أن يعفو عنا، وكثير من حال الذين يقصرون في الصلاة حيث تجد الواحد يتململ ويتذمر من أداء الصلاة؛ حتى يعطيها أقل وقت ممكن، وينتظر وقت الإقامة، ثم يأتي ساعياً إلى المسجد، فإذا سلم ربما يسبح أو لا يسبح، ثم يمشي.

ولو شعر ببعض قرة العين في الصلاة، وببعض السعادة والأمن والطمأنينة التي تكون للمصلي الذي يقيم الصلاة على وقتها لبكر، وربما جاء إلى المسجد قبل الأذان.

إذاً: من مظاهر وحقيقة التدين وعلاماتها: الخشوع في الصلاة، ومما يعين على الخشوع: أن يقدم المسلم مقدمات للخشوع، وذلك بالاستعداد للصلاة استعداداً يحتسبه عند الله عز وجل، ويأتي بنية جازمة صادقة إلى المسجد مبكراً، وعلى الأقل إذا سمع الأذان وسمع (حي على الصلاة) (حي على الفلاح)؛ انشرحت نفسه واستعد للإقبال على بيت الله أو على المسجد أو على الصلاة، ثم توضأ الوضوء الذي يكون على السنة، ومشى إلى المسجد محتسباً خطواته، ثم دخل المسجد وسلم، ثم كبر واستشعر أثناء تكبيرة الإحرام بأنه رفع الحجاب بينه وبين ربه، ثم حقق المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الإحسان: بأن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.

إذا استشعر هذا المعنى في صلاته ارتفع الحجاب بينه وبين ربه، واستشعر أنه يرى ربه، ثم بدأ بصلاته على هذا النحو: إذا قال: الله أكبر، استشعر عظمة الله عز وجل، وأن الله أكبر من كل شيء، وأنه جاء ليقدم عبادة يحتسبها أمام الله عز وجل، ثم شرع في التسمية، وشرع بقراءة الفاتحة مستشعراً معانيها، مستشعراً معنى: (الحمد لله)، ومعنى: (رب العالمين)، واستشعر معنى الاستعانة بالله ومعنى عبادة الله، واستشعر الدعاء الذي يدعوه في الفاتحة وما بعد الفاتحة، إذا استشعر هذه المعاني في الصلاة خشعت جوارحه، ولذلك لا يتصور من إنسان على هذا الوضع في الصلاة أن يأتي بحركات أخرى، فلابد أن تسكن جوارحه، كما قال أحد الصحابة لما رأى إنساناً يعبث بيده وثيابه: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.

إذاً: بهذا المعنى وبهذه الصورة تتجلى حقيقة من حقائق التدين، فالخشوع يكون في جميع ما يتعرض له المسلم من آيات الله ونعمه وآلائه، فيخشع عندما يرى العبر، وعندما يرى المواعظ، يخشع لله ويستكين لله فيسكن قلبه وتهدأ جوارحه، وتطمئن نفسه وتسعد روحه، ويشعر بالأمن الذي وعد الله به المؤمنين، والأمن يشمل أمن الدنيا وأمن الآخرة، وأول أمن: أمن القلب، فالإنسان إذا لم يأمن قلبه وإذا لم يأنس قلبه بالله عز وجل استوحش، ولو توافرت له جميع الأسباب المادية، وإذا أنس بالله وأمن قلبه بالله أمن، ولو توافرت عنده أكثر المخاطر ما دام متوكلاً على الله باذلاً الأسباب.

<<  <  ج: ص:  >  >>