[الوضوح والبيان في تقرير العقيدة]
ثانيها: حرص السلف على الوضوح والبيان في التعبير عن العقيدة، ويبتعدون عن الألفاظ البدعية والمصطلحات الفلسفية التي أحدثها الناس، كما فعل ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم، الذين عبروا عن بعض مسائل العقيدة بالمصطلحات الفلسفية على فهمهم الفاسد؛ فأوقعوا الناس في محارات وإشكالات، ويبتعدون أيضاً عن التعبيرات الكلامية المحيرة، كما فعل الرازي والماتريدي، ومن سلك سبيلهما، فقد عبرا أيضاً عن العقيدة بمصطلحات كلامية محيرة ليس لها وجه يعقل.
ولذلك اختلفوا عليها، حتى كان الرازي يعبر عن شيء ثم يفترض على تعبيره إشكالات، ثم يحاول أن يجيب على تلك الافتراضات والإشكالات فيعجز.
وأيضاً السلف لم يستعملوا التعبيرات الأدبية الفضفاضة المائعة، التي وقع فيها أمثال: سيد قطب رحمه الله، حيث عبر عن بعض مسائل الاعتقاد بتعبير أدبي أخل بالعقيدة، وأوقع من بعده في خلافات لفهم ألفاظه؛ حتى صار الناس يختلفون أحياناً في بعض ألفاظه على أربعة أو خمسة أقوال، هل هذا الحق أم الآخر، مع أن الحق لا يختلف عليه، والسبب في ذلك ما اعتاده من أسلوبه الأدبي، وربما لا يملك غير ذلك، لكن ليته لم يتعرض لتفاصيل العقيدة.
ومن المسائل التي عمت بها البلوى في عصرنا حتى صارت مصدر فتنة لكثير من المسلمين، وخاصة المثقفين والناشئين من طلاب العلم، هي تسلط كثير من غير المتخصصين على قضايا العقيدة وأصول الدين.
فمثلاً: الطبيب الذي تعلم بعض العلم الشرعي قد يحلل العقيدة من منظوره الطبي؛ فاختلطت عنده مصطلحات الطب بمصطلحات العقيدة، وهكذا المهندس درس شيئاً من العقيدة والعلوم الشرعية، ثم استقل بنفسه عن العلماء والراسخين في العلم؛ فصار يفسر العقيدة بتفسيرات هندسية، فخلط العلوم الهندسية بالعقيدة، وهلم جراً، حتى أننا نجد بعض التعبيرات في مسائل العقيدة من بعض الحكام، وقد يكون هذا المصطلح شيوعياً، أو تبع أي أيدلوجية أخرى، المهم أنه نشاز في العقيدة، والسبب في هذا: جرأة الناس على مسائل الاعتقاد.
وبعض المسلمين قد يتردد عن الحديث في التخصصات الأخرى إذا جرى حديث في أي مجلس من المجالس، لكن إذا عرضت قضية من قضايا العقيدة والدين رأيت أجهل الناس في المجلس هو أسبقهم إلى الحديث عنها، ويوالي الذي لا يخالفه، وهذا الأمر ما كان موجوداً وإنما حدث من وقت قريب، كان الناس حتى الفجار منهم والفساق والمعرضين عن دين الله عز وجل لا يجرءون على الكلام عن الدين، أما الآن فصار الدين عرضة لكل متسول، وهذه مشكلة أدت إلى الخروج عن منهج السلف في مسألة الألفاظ.
ومما تميز به منهج السلف أنهم تحاشوا المصطلحات الصوفية التي فيها لبس، أو تحتمل أكثر من وجه؛ وبذلك دخل كثير من الزنادقة على الإسلام، وأفسدوا العقائد من خلال المصطلحات الصوفية؛ لأنها مصطلحات مرنة تصلح لعدة وجوه، يعبر بها عن الحق وعن الباطل، فيستعملها صاحب الباطل في الباطل، ويستعملها صاحب الحق في الحق، وإن كان الحق غنياً عنها بحمد الله.
كذلك السلف ابتعدوا عن الألفاظ الباطنية الماكرة، وعن ألفاظ الرافضة التي تقوم على الفرية والكذب.
فتميز منهج السلف باعتماد المصطلحات والألفاظ الشرعية، والبعد عن الألفاظ البدعية في تقرير العقيدة وبيانها.
وقد يلجأ بعض السلف أحياناً إلى استعمال بعض المصطلحات لضرورة تتعلق بعصره، أو تتعلق بأمر أو فتنة حدثت في زمنه؛ وهذه ضرورات، وفرق بين التقرير والبيان، فإن السلف لا يخلطون العقيدة بمصطلحات أخرى، لكن أحياناً قد تدخل عليهم بعض الألفاظ من باب البيان أو من باب الدفاع.