المصدر الثالث: الأهواء والأمزجة والرغبات الشخصية، أغلب العقلانيين إنما دينهم هواهم، خاصة فيما يتعلق بالأحكام الشرعية، أحكام الحلال والحرام، وأغلب الأمور العملية في الشرع إنما ميزانهم فيها الأهواء، ما يهوونه يعملون به ويأخذون به، وما لا يهوونه يردونه بوسائل الرد التي ردوا بها أمور العقائد، وهذه دعوى شيطانية عند من يروجون المحرمات، وهذه البلية مع الأسف بدأت تظهر جلياً بين المسلمين الآن، بمعنى أن الناس أصبحوا يجعلون الدين خاضعاً لأهوائهم ورغباتهم، ويخضعون نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف لما يهوونه وما يرغبونه، وما لا يهوونه ولا يرغبونه يردونه بأي صارف من الصوارف التي يرفضون بها النص، ونجد الآن هذا الاتجاه ظاهراً في الصحف وأجهزة الإعلام، وفي كثير من التوجهات والاتجاهات المعاصرة، فهم يعوّلون على رغبات الناس، فحين تشيع فاحشة من الفواحش أو تصرف خاطئ من التصرفات يقولون: هذه رغبات الناس، وهذا ما يهواه الناس وما يريدونه، فيجعلون رغبات الناس والأهواء هي الميزان، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنعام:١١٦] والناس لو استفتوا لهلكوا وأهلكوا، فلذلك الآن كثيراً من العلمانيين والحداثيين يضربون على هذا الوتر، يقولون مثلاً: من الضروري الخروج عن التقاليد، فهم يسمون أحكام الشرع: تقاليد، هذه مسألة ينبغي أن تفهموها، ويسمون أحكام الشرع بما يتعلق بتعدد الزوجات وقوامة الرجل، وما يتعلق بالحشمة والفضيلة والسلوك الحسن والسنن، وحتى ما يتعلق بالسنن العملية كإعفاء اللحى والسواك يسمونها: عادات وتقاليد.
ويقولون: الآن تطور الناس وأغلبهم يرفض العادات والتقاليد، ويجعلون رغبات الناس وأهواءهم ميزاناً؛ ولذلك يضربون على هذا الوتر ويضغطون على المجتمع، بل حتى ويضغطون على المؤسسات الرسمية، يقولون: لماذا نحجر رغبات الناس؟ إلى متى الكبس؟ هذا من أعظم مصادر العقلانيين وهو الضغط من خلال الأهواء، ودفع الناس إلى الشر؛ لأنهم يهوونه، وكما تعلمون أن أهواء الناس ليست مصدراً للتشريع أبداً، بل العكس التشريع في الغالب يصرف الناس إلى الخير، وإن لم يهووه، ويصد الناس عن الشر وعما فيه مضرتهم، وإن لم يهووا ذلك.
ومن خلال هذا الاتجاه أصبح أصحاب هذه التوجهات الشيطانية يسلكون مسلكاً خطيراً، حيث أضفوا الآن على اتجاهاتهم ورغباتهم مسحة من الدين، فقالوا: الدين لا يحجر على حريات الناس، الدين يأخذ برغبات الناس، يأخذ بالرأي الغالب، وأخذوا يستدلون من النصوص بما يوافق أهواءهم، وعلى منهج الزنادقة قديماً الذين أخذوا بمثل قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:٤] يأخذون بجزء من النص أو بالنص الذي يريدونه ويقولون: هذا كلام الله، مع أن أصول الاستدلال كما تعرفون عند أهل السنة والجماعة: أنهم يوازنون بين النصوص، النصوص كثيرة، والنصوص فيها الناسخ والمنسوخ، وفيها المطلق والمقيد، وفيها الخاص والعام، والنصوص أيضاً لا بد في استنباطها من رد بعضها إلى بعض، ولا يمكن أن نأخذ نصاً وحده ونقف عنده، لا؛ لذلك الله سبحانه وتعالى أرشد المسلمين إلى أن يأخذوا الدين عن أهل الذكر الذين يحيطون بنصوص الكتاب والسنة وقواعد الاستدلال ولغة العرب، فلا يجوز لأي إنسان أن يأخذ أي دليل ويقول: هذا دليلي، لا؛ لأن الاستدلال له منهج سليم عند أهل السنة، وهو المنهج المستقيم والطريق المستقيم الذي هو الوسط لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير، وهذا لا يمكن أن يهتدي إليه أي إنسان بمجرد أن يأخذ النصوص من القرآن والسنة، لا، بل لا بد من الإلمام بأصول الاستدلال، وهذا لا يدركه إلا أهل الفقه في الدين، لكن الآن العقلانيون يخبطون في هذا المسلك، ولا يبالون بقواعد الاستدلال وقواعد الشرع، يأخذون من النصوص ما يعجبهم، وأكثر الناس يُفتن من خلال الجرائد والمجلات في هذه المسألة، يسمع بالدليل ويقرؤه ويظن أن هذا هو الحق، وما يدري أن هذه من شبه الشيطان وأعوانه؛ لصد الناس عن دين الله.
والله سبحانه وتعالى نبّهنا إلى هؤلاء في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}[الفرقان:٤٣].