الأمر الثاني: ضرورة الاجتماع على كلمة سواء على ثوابت الدين والدنيا التي اجتمعنا وتبايعنا عليها حكاماً ومحكومين، فكلنا في أعناقنا بيعة، فعندما بايع أهل الحل والعقد لهذه الدولة وفقها الله لكل خير فمعناه أن البيعة في ذمة الجميع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، والبيعة هي معقد الاعتصام، بها نستطيع أن نطبق أمور الإسلام، والله عز وجل يقول:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}[آل عمران:١٠٣]، فيجب أن نعتصم بحبل الله، وحبل الله هو الثوابت التي سأذكرها، والله عز وجل نهى عن التنازع، فقال:{وَلا تَنَازَعُوا}[الأنفال:٤٦]، حتى على الدنيا، لكن تنازع الدين أخطر {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال:٤٦]، وقال:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}[الأنعام:١٥٣]، فالبدع والأهواء والتيارات والحزبيات هذه يجب أن نتجنبها، وأن نبتعد عنها؛ لأنها سبيل الفرقة والشتات وهي التي تغذي الفتنة وهي وقودها.
فيجب أن نجتمع، لكن أيضاً الله عز وجل جعل لهذا الاجتماع معاقد وعرى ممسكات مستمسكات، فما هي هذه المستمسكات؟ أولها الدين بجملته، فعلينا أن نأخذ بالدين كما أمر الله لا كما نشتهي، فكثير من الناس يقول: نريد الدين، لكن يأخذ من الدين الذي يعجبه والذي لا يعجبه لا يأخذ به، والدين كله لله، يجب أن نأخذ بالدين بجملته، ثم الدين لا يبقى إلا بجماعة، والجماعة هي السلطان والعلماء وأهل الحل والعقد والمرجعية وأن الأبناء يخضعون لآبائهم ويخضعون لمن ولاه الله أمرهم، والشباب يعرفون قدر الكبار، وكل يعرف مرجعيته في دينه ودنياه، فيرجع رجال العشائر إلى شيوخهم، ويرجع أصحاب المؤسسات إلى رؤسائهم، ويرجع أبناء المدارس إلى مدرائهم، ويرجع أبناء الفصل إلى معلميهم، ويرجع الطلاب والتلاميذ إلى مشايخهم وعلمائهم، فرأس الأمة هم أهل الحل والعقد ومن بيده شيء من مصالح الأمة وإن لم يكن صالحاً ولو كان فاسقاً، وبعض الناس ما يفهم هذا، والله عز وجل جعل رأس الجماعة خيار الأمة وهم العلماء ثم الولاة، والولاة لهم حقوق وعليهم حقوق، والذي لهم أوجب من الذي عليهم؛ لأن الذي لهم يوجب أمن الجميع، والذي عليهم قد تكون حقوقاً فردية، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسمع والطاعة فقال:(ولو أخذ مالك وضرب ظهرك) لأنك إذا ما سمعت ولا أطعت شققت عصا الجماعة وأخللت بالأمن.
إذاً: أعود وأقول: لا يمكن أن يكون دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بسلطان، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنصح للسلطان وبطاعته في المعروف براً كان أو فاجراً، بل حتى لو وقع ظلم كما وقع في تاريخ الأمة كلها، حتى إنه أوصى حتى الأفراد فقال:(وإن أخذ مالك وضرب ظهرك) يعني: تسمع وتطيع.
وقال توجيهاً عاماً للأمة:(إنكم ستلقون بعدي أثرة)، يعني: أنكم قد تظلمون وتؤخذ أموالكم وتؤخذ المصالح العامة كما حدث في كثير من تاريخ الأمة، قال:(إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، ولم يقل: كفروا وفجروا، وإنما قال:(فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، فهذه ثوابت يجب أن نغرسها في قلوب الأجيال؛ ليعتزوا ولا يذلوا، لا كما يزعم البعض فالله! ما في الدين إلا العزة والخير والجماعة وحفظ الأمن.
ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فمن نعم الله علينا أن الله حبانا بدولة تحمل الإسلام ونظام الحكم فيها وجود القضاء ووجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجود احترام المشايخ وجود أصل الخير، ولا يعني ذلك عدم وجود تجاوزات، فأنا أعرف من كثير من المسئولين أنهم اعترفوا علناً وسراً في مجالس خاصة وعامة بوجود أخطاء كبيرة، لكن ما السبيل إلى علاج هذه الأخطاء؟ السبيل هو التناصح والشورى، ومع ذلك ما يلزم أن تتغير كل المنكرات، فبعض المتعجلين -خاصة الشباب المتحمس- يقول: أنكرنا وأنكرنا، وأنكر المشايخ ولا نفع، فأقول: وإذا ما نفع فأوصيك بالصبر.
كنا كثيراً في مجالس الشيخ ابن باز نجد من بعض طلاب العلم الغيورين جزاهم الله خيراً يشكون للشيخ: أننا نريد كذا، فيقول الشيخ: اكتبوا أنتم للمسئولين وادخلوا عليهم، اكتبوا لهم أو وصوا من يكتب لهم، ما هو لازم الشيخ ابن باز وابن عثيمين، كذا يقول، ابحثوا بأي طريق ووصلوا الأمر للمسئولين وكلموهم، وكان بعضهم يقول: يا شيخ! تكلمنا في الموضوع الفلاني وتكلمت أنت وما أفاد، فكان الشيخ إذا قالوا هذا الكلام يهون عليهم، حتى إنه أحياناً يبكي وذكر أنه نصح في مسألة من المسائل وكتب أكثر من عشرين مرة أو قال: عشرين مرة، وما استجيب له إلا في المرة العشرين، وفي أمور يقول: لا نطاع فيها إلى الآن، لكن أمرنا لله، وفي أمور كثيرة يتحقق منها خير، وشهد