للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التعريف بالعقلانيين]

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن من أعظم المصائب التي ابتلي بها المسلمون في تاريخ الإسلام، والتي حرفت الكثيرين عن منهج الحق هي تقديس العقل وتعظيمه وإعطاؤه أكثر مما خلق له، والتعويل عليه أكثر مما يطيق، وهذه البلية إنما وفدت على المسلمين بسبب عوامل كثيرة لعل من أخطرها وأهمها: العقائد الموروثة والفلسفات المستوردة التي وفدت على المسلمين عن طريق أهل الكتاب، وعن طريق الزنادقة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا عقائدهم، وأيضاً عن طريق جانب الضعف الذي ابتلي به المسلمون حينما ظنوا أنهم بحاجة إلى علوم الآخرين، فترجموا كتب الفلسفة وعلم الكلام من لغات اليونان وغيرهم إلى اللغة العربية في بداية القرن الثاني الهجري وما تلاه.

هذه بداية الافتتان بالاتجاهات العقلية كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

كما ذكرت لكم في درس سابق أن الأصل الذي يقوم عليه الدين هو التسليم لله تعالى، والتسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا أخذ معنى الإسلام، فالإسلام هو الاستسلام لله بالطاعة، والانقياد له، والخلوص من الشرك، وعلى هذا يكون معنى الإسلام التسليم لله تعالى بأمور: أولاً: بالتأله والعبادة والخضوع والذل، وصرف جميع أنواع العبادة له سبحانه وحده.

ثانياً: بتصديق خبره.

ثالثاً: بامتثال أمره واجتناب نهيه.

رابعاً: بالقناعة وباطمئنان القلب بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولا شك أن من التسليم لله تعالى التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتم التسليم لله تعالى إلا بالتسليم له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وهو الذي جاءنا بالحق والهدى والنور.

إذاً: فالتسليم إنما يقوم على التعبد والتصديق وعلى العمل والامتثال، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] أي: تسليم التصديق، وتسليم الامتثال، وتسليم القناعة أيضاً، وبعض الناس قد يصدّق وقد يمتثل، لكن لا تكون عنده قناعة بقضاء الله وقدره وشرعه وأمره ونهيه، فهذا تسليمه ناقص.

إذاً: فنستطيع أن نقول: أساس التسليم: الإيمان بالغيب، والغيب إنما سمي بذلك؛ لأنه غائب عن الناس، غائب عن المدركات وعن العقول، فلا يستطيع بشر ولا مخلوق أن يدرك الغيب، إلا من أطلعه الله عليه، وعلى هذا ممكن أن يرد سؤال عن المقصود بالعقلانيين: من العقلانيون إذا وردوا، خاصة إذا جاء هذا الاصطلاح في مباحث الاعتقاد وأصول الدين؟ العقلانيون هم الذين يقدّسون العقل، ويعتمدون على أفكار البشر وفلسفاتهم وآرائهم، ويقدمونها ويحكمونها في كلام الله تعالى وشرعه، ويقدمونها ويحكمونها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعلون العقل -وهو نتاج البشر- أكثر وأعلى درجة ومنزلة من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يجعلون أقوال البشر وآراءهم أيضاً هي المقدمة وهي المحكّمة على كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام.

أيضاً العقلانيون هم الذين يقحمون العقول فيما لا مجال لها ولا طاقة لها به، فهم يقحمون العقول في أمور التشريع فيما ورد عن الله تعالى وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقحمون العقول أيضاً في أمور الغيب وأخبار الغيب، وليس المقصود بالعقلانيين هم الذين يفكّرون بعقولهم على هدى وبصيرة، أو الذين يستخدمون عقولهم كما أمر الله تعالى! لا، هؤلاء لا يسمون بالعقلانيين، إنما هؤلاء هم الذين على السنة وعلى الحق والهدى، وهم أهل الاقتداء والاهتداء، أما كلمة العقلانيين إذا أُطلقت فتُطلق مقابل أهل السنة والجماعة، وتطلق والمقصود بها الذين يقدّسون العقل ويقحمونه فيما لا طاقة له.

<<  <  ج: ص:  >  >>