[نماذج من رءوس البدع العقلانيين]
ظهرت رءوس البدع بعد ذلك، وهم الأشخاص الذين أخذوا يتكلمون بالبدع علناً، أولهم: ابن السوداء وهو اليهودي الذي كاد للإسلام، وأسس دين الشيعة الرافضة الذين هم عليه إلى اليوم، وكان من أول من جهر بالاعتراض على الدين بعقله ورأيه، كان يقول مثلاً: لا يمكن أن يترك الله النبوة بلا وريث، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أبناء إذاً فوريثه في النبوة صهره وابن عمه علي.
وكان يقول لما مات علي: لا يعقل أن المعصوم يموت! كيف يموت علي؟ لا أبداً، إنما علي رُفع وسيرجع مرة أخرى وهكذا.
كان يقول هذا الكلام عند أناس سُذّج دخلوا الإسلام قريباً ولم يتفقهوا في الدين، فأصبح يروج بينهم هذه المقولات العقلانية حتى صارت ديناً يقتدى به إلى اليوم عند الرافضة، ثم ظهر معبد الجهني وغيلان الدمشقي وأكثر كلامهم كان في القدر، ثم ظهر الجعد بن درهم وهو من رءوس البدع، وبدأ يتكلم في القرآن، وقال: القرآن ليس منزل، والقرآن مخلوق، والله لا يتكلم.
وقال: لا يُعقل أن الله يتخذ إبراهيم خليلاً، وقال: لا يُعقل أن الله كلّم موسى تكليماً، هكذا بهواه لم يسلم لكلام الله تعالى.
وقال: لا يُعقل أن الله تكلم بالقرآن، وقال: إن الإنسان مجبور وليس له حرية ولا إرادة، إن عمل الخير فهو أصلاً عامل للخير سواء اختار أو لم يختار، فجاءت قضية إلغاء التكاليف بعد ذلك.
فلما بدأ يعلن أفكاره العقلانية وقف أمامه السلف وناظروه واستتابوه فلم يتب، فحكموا بردته بإجماع، حتى قتله أحد ولاة المسلمين يوم عيد الأضحى، وقال حينما انتهى من خطبته: ضحوا تقبّل الله ضحاياكم فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، فقتله، وبذلك انقمعت البدعة عشرات السنين، وهكذا دائماً إذا أُقيم حداً لله حفاظاً على دين الله، فإن الدين يُنصر بالرعب، متى ما أُقيم حد غيرة على دين الله تعالى وعلى شرعه، فإن الله سبحانه وتعالى ينصر الدين بهذا الحد، ويكف الله عن المسلمين كثيراً من الشرور بهذه الحدود، وكما تعلمون أيضاً يتنزل الخير والغيث بتطبيق الحدود.
وبعد قتل الجعد بن درهم انقمعت فتن المتكلمين والعقلانيين مدة من الزمن، حتى ظهر الجهم بن صفوان وزاد على كلام سلفه الجعد بأمور، ومنها: إنكار الرؤية، قال: لا يُعقل أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة.
إذاً: فما تقول في كلام الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣]؟ وما تقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سترون ربكم عياناً)؟ قال: العقل مقدّم ومعصوم عندي.
هذا مبدؤه ومبدأ من جاء من بعده.
ثم أيضاً تكلم في الجنة والنار وقال: لا يمكن أن الجنة والنار تدومان أبداً، قال هذا بعقله، فقيل له: لماذا؟ قال: لا يُعقل هذا فقط، ما عنده دليل، قاس الأمور بعقل المعيشة، لم يوفقه الله لعقل الهداية الذي يسلم لله تعالى، والذي يعلم أن الله على كل شيء قدير.
كل هذه الأمور مربوطة بخبر الله تعالى وبقدرته، وخبر الله صدق وحق، وقدرته لا نهاية لها.
ثم جاء واصل بن عطاء أيضاً واعترض بمجرد عقله على مسألة مرتكب الكبيرة، وذلك عندما كان للحسن البصري رحمه الله درس، وكان يقرر مسألة مرتكب الكبيرة: هل هو مخلّد في النار أو لا؟ وسئل، فقال: مرتكب الكبيرة في الدنيا فاسق بمعصيته مؤمن بإيمانه، وفي الآخرة أمره إلى الله، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له، وإن عُذِّب فستشمله شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال واصل بن عطاء: لا، هذا لا يُعقل.
هذا هو أسلوب العقلانيين حتى الآن، تجد اعتراضهم على الشرع وعلى الدين بهذه الصورة: لا، هذا لا يمكن، هذا لا يُعقل.
فقيل لـ واصل: ما تقول؟ قال: أقول: مرتكب الكبيرة كافر في الدنيا مخلد في النار يوم القيامة، فماذا يقول في أحاديث الشفاعة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقد ثبتت أحاديث قطعية متواترة أن شفاعته تشمل جميع الموحدين من أمته مرتكبي الكبائر وغيرهم، لكنه لا يبالي بالسنة؛ لأن عقله هو المقدم، فأسس مذهباً اسمه: مذهب المعتزلة، كما أسس قبله الجهم بن صفوان مذهب اسمه: مذهب الجهمية.
لم يكتف العقلانيون بمسائل صغيرة من الدين، بل حكّموا عقولهم في أمور غيبية كبرى لا طاقة للعقل بها، فأنكر الجهمية أسماء الله وصفاته بعقولهم، قالوا: عقولنا لا تعقل أن يكون لله أسماء وصفات، فأنكر المعتزلة صفات الله، وقالوا: عقولنا لا تؤمن بأن لله صفات، هكذا بدون دليل، فلو استدلوا بالكتاب والسنة لوجدوا دلالتهما على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، لكنهم لا يعوّلون على النصوص، بل عقولهم مُحكّّمة.
ثم بعد ذلك تلت الفرق وانفتحت على ا