من حقيقة التدين: وجود الإخلاص في القلب، والمراقبة لله عز وجل، والإحسان، وكما يكون الإحسان في العبادة لابد أن يكون الإحسان مع الخلق، ولعل أظهر محك للناس في ظهور حقيقة التدين هو التعامل مع الآخرين، فمن التدين أن يكون المسلم رفيقاً شفيقاً رحيماً بالمسلمين، أن يرفق بالمسلمين في كل شيء، في نصحه، في بيانه، في رده، في بيعه، في شرائه، في جميع أنواع التعامل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، ولو استعرضنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن الأصل في تعامله مع الآخرين -حتى الذين يخطئون والذين يقعون في فواحش الذنوب، والذين يقعون في الأمور المستشنعة- أنه يعاملهم برفق، فعامل الأعرابي الذي بال في المسجد بالرفق، وعامل حاطب بن أبي بلتعة الذي وقع في عمل ظاهره الكفر بالرفق، وكثير من ذلك، إلا إذا انتهكت حدود الله فهذا أمر آخر، وله ضوابطه، ويكون لأهل الحل والعقد أيضاً، وليس لكل إنسان أن يدعي دعوى الغيرة على الحدود فيفتات على العلماء.
فالمهم الإحسان إلى الخلق عموماً، وكل له درجة من الإحسان، وحسن التعامل مع الآخرين هو المحك، ولذلك لما أخل كثير من المسلمين بهذه الحقيقة، حقيقة التعامل مع الآخرين، ولم يسلك كثير منهم مسلك الرفق والرحمة والحلم والنصح والإشفاق والتدرج في الدعوة ونحو ذلك، لما تخلف هذا الأصل عند المسلمين قل وضعف جانب القدوة فيهم، فالقدوة الآن في المسلمين قليلة ونادرة جداً في التعامل، وكثيرون نجدهم في عقائدهم على الاستقامة، وتجد هناك نماذجاً من الناس عقيدة أحدهم سليمة، وعلمه وفقهه في الشرع سليم، وقد يكون أيضاً باذلاً جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، لكن لا يحسن التعامل مع الخلق، فهذا غالباً لا تنفع دعوته، ولا يقتدي به أحد، والمسلمون الآن بحاجة إلى الأنموذج الأمثل في التعامل أكثر من حاجتهم إلى الخطب والكتابات والوسائل الأخرى، وأنا أجزم أنا لو استغنينا عن أكثر ما نقوله وما نكتبه واتجهنا إلى غرس القدوة في الناس لتحقق الخير الكثير، فكثيرون ممن حرموا الاستقامة كان الحاجب بينهم وبين الاستقامة سلوك بعض المتدينين؛ لأنهم ما حققوا التدين.
ثم كثير من الكفار وغير المسلمين حرموا نعمة الإسلام بسبب كثير من المسلمين، وهذا أمر معلوم مشهور، يعلمه كل من خالط أو عايش أو سافر إلى بلاد الكفار للدعوة إلى الله عز وجل، أو حتى دعا أحداً من الكفار في أي مكان، فسيجد أن من أعظم عوائق إسلام هؤلاء القوم أفراداً وجماعات وأمماً وقبائل هو سلوك المسلمين، وهذا صرحوا به وقالوه، فأكبر عائق لدخولهم في الإسلام هو عدم تحقيق التدين بين المسلمين في تعاملاتهم، فتجد كثيراً من المسلمين غليظاً فظاً، عنده جفاء، وعنده سلبية، وقد يتعامل مع الناس بشيء من المراوغة والكذب، وعدم الإتقان للأعمال إلى آخره.
وكما تتحقق حقيقة التدين بالتمييز بين الحق والباطل لابد لكل من يدعي التدين أن يميز بين الحق والباطل، ويتجلى ذلك بأن يميز المسلم بين المعروف وبين المنكر، ويميز بين الكفر وبين الإسلام، ويميز بين المسلم وبين الكافر، ويميز بين المؤمنين وبين الكافرين، والله عز وجل يقول:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:٣٥ - ٣٦]، ويقول عز وجل:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ}[السجدة:١٨]، وبعض الناس يقول: الكل سواء، وهذا غير صحيح، لكن التمييز ينبغي أن يكون له ضوابطه وحدوده، فلا يصل إلى حد الخشونة في التعامل، أو الإساءة إلى الدين الحق أو إلى الفظاظة والغلظة في التعامل مع الآخرين.
فمن حقيقة التدين أن يكون المسلم مميزاً، وكما يميز بين الضار والنافع في مأكله ومشربه ومعاملاته مع الناس يجب أن يميز قبل ذلك بين الحق والباطل، لكن بالضوابط الشرعية، لا يتخطى الحواجز الشرعية والطبيعية كما يفعل بعض الناس، فالأمر يحتاج إلى اعتدال؛ فلابد من التمييز بين الحق والباطل في حقيقة التدين.