للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فخلع عليه الرشيد ووصله بعشرة آلاف درهم والفضل بمثلها، فنظر إلى جارية تختلف كأنها لؤلؤة فقال: يا أمير المؤمنين أنا ميت في ليلتي هذه فإذا متّ فمُر أن أدفن في بطن هذه الجارية. فقال له الرشيد: خذها لا بارك الله لك فيها! قال أبو نواس: فأخذتها وانصرفت بمثل الشمس حسناً وفي منزلي غلامٌ مثل القمر، فلقيني محمد بن يسير الشاعر فقال: أتيتك مهنئاً بما حباك به أمير المؤمنين. فقلت: نعمةٌ تتبعها نقمة. قال: ولم ذاك؟ فقلت: عندي غلام مثل القمر وهذه مثل الشمس وإن جمعتهما أتخوف ما تعلم وإن أفردت الجارية لم آمن عليها وغلامي لا بد منه. قلت: اجعلها عند بعض إخوانك إلى وقت حاجتك إليها. قلت: فلعل الحارس هو المتحرس منه. قال: فصيرها عند عجوز تثق بها، قلت: لعلي أسترعي الذئب! قال: ثم افترقنا، فالتقى معه أبو نواس بعد ثلاثة أيام فقال له: يا محمد بن يسير ما على الأرض شر منك، شاورتك في أمر فلم تفتح عليّ فيه شيئاً فلما فارقتك ازدحم علي الرأي المصيب. قال محمد فماذا صنعت؟ قال: زوّجت الشمس من القمر فحصّلتهما لأقضي بهما وطري! قال: كان الشيء عليك حلال فجعلته حراماً. قال: يا أحمق شاورتك في الحلال والحرام! إنما قلت كيف الرأي في تحصيلهما! ثم أنشأ:

زوّجت هذاك بهذه لكي ... أنكح ثنتين فثنتين

أنكح هذه مرةً ثم ذا ... أُدير رمحاً بين صفين

متعت نفسي بهما لذةً ... يا من رأى مطلع شمسين

وحدثنا محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان وهو أمير البصرة قال: كان بالبصرة رجل من بني تميم وكان شاعراً ظريفاً وكنت آنس به فأردت أن أخدعه فقلت: يا أبا نزار أنت شاعر وظريف والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف فما يمنعك منه؟ قال: ما عندي ما أتحمل به. قلت: أنا أعطيك نجيباً فارهاً ونفقة سابغة تخرج إليه وقد امتدحته فإنك إن حظيت بلقائه صرت إلى أمنيتك. قال: والله أيها الأمير إني لا أظنك صادقاً. قلت: أجل، فدعوت بنجيبة فارهة. فقال: هذه إحدى الحسنيين فما بال الأخرى؟ فدعوت له بثلاثمائة درهم. قال: وهذه الثانية، قال: أحسبك أيها الأمير قصّرت في النفقة. قال: هي لك كافية إن قبضت يدك عن السرف. قال: ومتى رأيت السرف في أكابر بني سعد فكيف في أصاغرها؟ فأخذ النجيبة والنفقة ثم عمل أرجوزة ليست بطويلة فأنشدنيها وحذف منها ذكري. فقلت له: ما صنعت شيئاً. قال: وكيف ذلك؟ قلت: تأتي الخليفة وأنت وافد فلا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير أردت أن تخدعني فوجدتني خدّاعاً. أما والله ما لكرامتي حملتَني وجُدت لي بمالك الذي ما رامه أحد إلا جعل الله خدّه الأسفل ولكن لأذكرك! قلت: فأنشدني ما قلت. فأنشدني، فقلت: أُعنت وأجدت. فتركني وخرج حتى أتى الشأم والمأمون بسلغوس، فأخبرني قال: بينا أنا غزاة قرة قد ركبت نجيبتي ولبست أطماري وأنا أريد العسكر فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقرّ قراره ولا يدرك خطاه، فتلقاني مكافحة ومواجهة وقال: السلام عليكم، بكلام جهوري ولسان بسيط. فقلت: وعليكم السلام. فقال: قف إن شئت. فوقفت، فتضوعت منه رائحة المسك الأذفر. فقال: ممن؟ قلت: رجل من مضر. قال: ونحن من مضر، ثم ماذا؟ قلت: من بني تميم. قال: وما بعدهم؟ قلت: من بني سعد. قال: هيه، فما أقدمك؟ قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى راحة ولا أوسع باحة ولا أطول باعاً ولا أمدّ يفاعاً منه. قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذّ على أفواه الرواة ويحلو في أذن المستمعين. قال: فأنشدنيه. فمضيت وقلت: يا ركيك أخبرك أني قصدت الخليفة بشعر قلته ومديح حبّرته فتقول أنشدنيه؟ فقال: وما الذي تأمل فيه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي فألف دينار. قال: أنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيداً والكلام عذباً وأضع عنك العناء وطول الترداد، متى تصل أنت إلى الخليفة؟ بينك وبينه عشرة آلاف رامح ونابل. قلت: فلي عليك الله أن تفعل؟ قال: لك الله عليّ أن أفعل. قلت: ومعك مال؟ قال: بغلي هذا خير من ألف دينار أنزل لك عن ظهره. قال: فغضبت وعارضتني مِرة بني سعد وخفة أحلامها وقلت: ما يساوي هذا البغل، هذا النجيب! قال: فدع عنك هذا ولك الله أن أعطيك ألف دينار، فأنشدته الأرجوزة وقلت:

مأمون يا ذا المنن الشريفه ... وصاحب المرتبة المنيفه

<<  <   >  >>