فقال المعتصم: ليدع صاحب القصة. فدعي فلم يجب. فقال: والله لو جاءني لدفعت إليه الفضل لينفذ فيه أمره.
وقال بعضهم: رأيت على حائط دار الفضل بن مروان مكتوباً:
تفرعنت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فمثلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاكٍ مضوا لسبيلهم ... أبادهم التنكيل والحبس والقتل
وإنك قد أصبحت في الناس لعنةً ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل
قيل: وكان الواثق غضب على جعفر المتوكل أخيه لبعض أموره فأراد أن يقوّمه فوكّل به عمر بن فرج، فأتى جعفر إلى محمد بن عبد الملك الزيات مستغيثاً به ليكلم أخاه، فدخل عليه فمكث ملياً واقفاً بين يديه لا يكلمه ثم أشار إليه أن يقعد، فقعد، فلما فرغ من نظره في الكتب التفت إليه شبيهاً بالمتهدد له فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضى عني. فقال لمن حوله: انظروا إلى هذا يغضب أخاه ثم يسألني أن أسترضيه! اذهب فإنك إذا أصلحت رضي عنك. فقام جعفر كئيباً حزيناً لما لقيه به من قبح اللقاء، فخرج من عنده.
وكتب محمد بن عبد الملك إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده: يا أمير المؤمنين أتاني جعفر بن المعتصم يسأل أن أسأل أمير المؤمنين الرضى عنه في زيّ المخنثين له شعر. فكتب إليه الواثق: ابعث إليه فأحضره ومر من يحزّ شعره ويضرب به وجهه.
فحدث عن المتوكل قال: لما أتاني رسوله لبست سواداً لي جديداً وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى عني، فلما دخلت عليه قال: يا غلام علي بحجام. فدعي، فقال: خذ شعر هذا، فأخذه على السواد الجديد ولم يأتني بمنديل، فأخذ عليه شعري وضرب به وجهي. فما دخلني شيء من الجزع مثل ما دخلني في ذلك اليوم. قال: فلما ولي جعفر الخلافة بعث إلى محمد بن عبد الملك فدعاه. فركب حتى أتى دار إيتاخ فأخذ سيفه وقلنسوته ودرّاعته فدفع إلى غلمانه وانصرفوا وهم لا يشكّون أنه مقيم عند إيتاخ. ثم سوهر ومنع النوم وسُئل عن شيء يعذب به فدلّ على تنور من خشب فيه مسامير قيام. فحدثت عن أحمد بن أبي دؤاد أنه قال: هو أول من أمر بعمل التنور فابتلي به لصحة المثل: كما تدين تدان، وإن شئت: من يُرِ يوماً يُرَ به، وإن شئت: من حفر حفرة هوى فيها، فعذّب في التنور.
فحدّث الموكّل بعذابه فقال: كنت أخرج وأقفل عليه الباب فيمد يديه إلى السماء جميعاً حتى يدق موضع كتفيه ثم يدخل التنور ويجلس وفي التنور مسامير حديد وفي وسطه خشبة معترضة يجلس المعذَّب عليها إذا أراد أن يستريح. قال المعذِّب له: فخاتلته يوماً وأريته أني قد أقفلت عليه ثم مكث قليلاً ودفعت الباب فإذا هو قاعد، فقلت: أراك تعمل هذا! فكنت إذا خرجت شددت خناقه، فما مكث بعد ذلك إلا أياماً حتى مات. فوجد على حائط البيت الذي كان فيه من قبل التنور:
لعب البلى بمعالمي ورسومي ... ودُفنت حياً تحت ردم غموم
وشكوت غمّي حين ضقت ومن شكا ... كرباً يضيق به فغير ملوم
لزم البلى جسمي وأوهن قوتي ... إن البلى لموكّلٌ بلزوم
أبنيّتي قلّي بكاءك واصبري ... فإذا سمعت بهالك مغموم
فانعي أباك إلى نسائه واقعدي ... في مأتمٍ يبكي العيون وقومي
قولي له يا غائباً لا ترتجى ... حتى القيامة مخبراً بقدومي
يا عين كنت وما أكلّفك البكا ... حتى ابتليت فإن صبرت فدومي
وقال في التنور الذي عذب فيه:
هِيض عظمي الغداة إذ صرت فيه ... إن عظمي قد كان غير مهيض
ولقد كنت أنطق الشعر دهراً ... ثم حال الجريض دون القريض
وله أيضاً وهو يعذب في التنور، وقيل إنه آخر ما قاله:
تمكنت من نفسي فأزمعت قتلها ... وأنت رخيُّ البال والنفس تذهب
كعصفورةٍ في كف طفلٍ يسومها ... ورود حياض الموت والطفل يلعب
فلا الطفل يدري ما يسوم بكفه ... وفي كفه عصفورةٌ تتضرّب
قال: وكان إسماعيل بن القاسم في حبس الرشيد فكتب إليه بسوء حاله. فكتب في رقعته: ليس عليك بأس. فكتب إليه:
أرقت وطار عن عيني النعاس ... ونام السامرون ولم يؤاسوا