أمين الله أمنك خير أمنٍ ... عليك من التقى فيه لباس
تساس من السماء بكل برٍّ ... وأنت به تسوس كما تساس
كأن الخلق رُكّب فيه روحٌ ... له جسدٌ وأنت عليه راس
أمين الله إن الحبس بأسٌ ... وقد أرسلت ليس عليك باس
فأمر بإطلاقه وصلته.
قيل: إنه لما غضب المتوكل على سليمان والحسن ابني وهب قال الحسن:
أقول والليل ممدودٌ سرادقه ... وقد مضى الثلث منه أو قد انتصفا
يا رب ألهم أمير المؤمنين رضىً ... عن خادمين له قد شارفا التلفا
لئن يكونا أساءا في الذي سلفا ... فلن يسيئا بإذن الله مؤتنفا
فرضي عنهما وأمر بإطلاقهما.
قال الكسروي: وقّع كسرى بن هرمز إلى بعض المحتبسين: من صبر على النازلة كمن لم تنزل به، ومن طوّل له في الحبل كان فيه عطبه، ومن أكل بلا مقدر تلفت نفسه.
ووقّع بعضهم لمحبوس سأل الإطلاق: أنت إلى الاستيثاق أحوج منك إلى الإطلاق. وأنشد في هذا المعنى:
ألا أحدٌ يدعو لأهل محلةٍ ... مقيمين في الدنيا وقد فقدوا الدنيا
كأنهم لم يعرفوا غير دارهم ... ولم يعرفوا غير الشدائد والبلوى
وقال أعرابي:
ولما دخلت السجن كبّر أهله ... وقالوا أبو ليلى الغداة حزين
وفي الباب مكتوبٌ على صفحاته ... بأنك تنزو ساعةً وتلين
ولابن المعتز:
تعلمت في السجن نسج التكك ... وكنت امرأً قبل حبسي ملك
وقيدت بعد ركوب الجياد ... وما ذاك إلا بدور الفلك
ألم تبصر الطير في جوّه ... يكاد يلامس ذات الحبك
إذا أبصرته خطوب الزما ... ن أوقعنه في حبال الشرك
فهاذاك من حالق قد يصاد ... ومن قعر بحرٍ يصاد السمك
ووجدنا في أرض البيت الذي قتل فيه بخطه:
يا نفس صبراً لعل الخير عقباك ... خانتك من بعد طول الأمن دنياك
مرّت بنا سحراً طيرٌ فقلت لها ... طوباك يا ليتني إياك طوباك
قال: وكتب يحيى بن خالد البرمكي إلى الرشيد: من الحبس لأمير المؤمنين وخلف المهديين وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته عيوبه وأوبقته ذنوبه وخذله شقيقه ورفضه صديقه وزال به الزمان ونزل به الحدثان وحلّ به الضيق بعد السعة والشقاء بعد السعادة وعالج البؤس بعد الدعة ولبس البلاء بعد الرخاء وافترش السخط بعد الرضى واكتحل السهود وفقد الهجود، ساعته شهر وليلته دهر، قد عاين الموت وشارف الفوت، جزعاً يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك من موجدتك وأسفاً على ما حرمته من قربك لا على شيء من المواهب، لأن الأهل والمال إنما كانا لك وعارية في يديّ منك، والعارية لا بد مردودة، فأما ما اقتصصته من ولدي فبذنبه وعاقبته بجرمه وجريرته على نفسه فإنما كان عبداً من عبيدك لا أخاف عليك الخطأ في أمره ولا أن تكون تجاوزت به فوق ما كان أهله ولا كان مع ذلك بقاؤه أحبّ إلي من موافقتك، فتذكّر يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك وحجب عني فقدك، كبر سني وضعف قوتي وارحم شيبتي وهب لي رضاك عني ولتمل إليّ بغفران ذنبي، فمن مثلي يا أمير المؤمنين الزلل ومن مثلك الإقالة، ولست أعتذر إليك إلا بما تحب الإقرار به حتى ترضى، فإذا رضيت رجوت أن يظهر لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك معه ما مننت به من رأفتك بي وعفوك عني ورحمتك لي، زاد الله في عمرك يا أمير المؤمنين وقدمني للموت قبلك. وكتب في أسفله:
قل للخليفة ذي الصنا ... ئع والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قري ... شٍ والملوك الهاديه
ملك الملوك وخير من ... ساس الأمور الماضيه
إن البرامكة الذي ... ن رموا لديك بداهيه
عمّتهم لك سخظةٌ ... لم تبق منهم باقيه
فكأنهم مما بهم ... أعجاز نخلٍ خاويه
صفر الوجوه عليهم ... خلع المذلة باديه
متفرقين مشتتي ... ن بكل أرضٍ قاصيه