فمر الحسين، عليه السلام، حتى نزل مكة فأقام بها هو وابن الزبير، رحمه الله، وقدم عمرو بن سعيد بن العاص في رمضان أميراً على المدينة وعلى الموسم وعزل الوليد بن عتبة، فلما استوى على المنبر رعف فقال أعرابي: ما جاءنا والله بالدم. قال: فتلقاه رجل بعمامته فقال: ما عمّ الناس والله. ثم قام وخطب، فناولوه عصا لها شعبتان فقال: تشعب الناس والله. ثم خرج إلى مكة فقدمها قبل التروية بيوم، وخرج الحسين، عليه السلام، فقيل له: خرج الحسين. فقال: اركبوا كل بعير وفرس بين السماء والأرض في طلبه فاطلبوه. قال: فكان الناس يتعجبون من قوله هذا، فطلبوه فلم يدركوه، فأرسل عبد الله بن جعفر ابنيه عوناً ومحمداً ليردّا الحسين، فأبى الحسين أن يرجع وخرج بابني عبد الله معه، ورجع عمرو بن سعيد إلى المدينة وبعث بجيش يقاتلون ابن الزبير، وقدّم الحسين، عليه السلام، مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليأخذ عليهم البيعة، وكان على الكوفة حين مات معاوية النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري، فلما بلغه خبر الحسين، عليه السلام، قال: لابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحب إلينا من ابن بنت بحدل. فبلغ ذلك يزيد فأراد أن يعزله فقال لأهل الشام: أشيروا علي من استعمل على الكوفة؟ فقالوا: أترضى برأي معاوية؟ قال: نعم. قالوا: فإن العهد بإمارة عبيد الله بن زياد على العراقين قد كتب في الديوان، فاستعمله على الكوفة. فقدم الكوفة قبل أن يقدم الحسين، عليه السلام، وقد بايع مسلم بن عقيل أكثر من ثلاثين ألفاً من الرجال من أهل الكوفة، فخرجوا معه يريدون عبيد الله بن زياد، فجعلوا كلما انتهوا إلى زقاق انسلّ ناس منهم حتى بقي في شرذمة قليلة وجعل الناس يرمونه بالآجر من فوق البيوت، فلما رأى ذلك دخل دار هانيء بن عروة المراديّ وكان له فيهم رأي، فقال له هانيء: إن لي من ابن زياد مكاناً وسوف أتمارض له، فإذا جاء يعودني فاضرب عنقه. فقيل لابن زياد: هانيء بن عروة شاكٍ يقيء الدم، وكان شرب المغرة فجعل يقيئها، فجاء ابن زياد يعوده، وقال: هانيء لمسلم: إذا قلت اسقوني ولو كانت فيه نفسي فاضرب عنقه. فقال: اسقوني، فأبطأوا عليه، فقال: ويحكم اسقوني ولو كانت فيه نفسي! قال: فخرج ابن زياد ولم يصنع الآخر شيئاً، وكان أشجع الناس ولكن أخذته كبوة. فقيل لابن زياد: والله إن في البيت رجلاً متسلحاً، فأرسل ابن زياد إلى هانيء فدعاه، فقال: إني شاكٍ. فقال: ائتوني به وإن كان شاكياً. قال: فأسرجت له دبة فركب وكانت معه عصاً وكان أعرج فجعل يسير قليلاً قليلاً ثم يقف ويقول: ما لي ولابن زياد! فما زال حتى دخل عليه. فقال: يا هانيء ما كانت يد زياد عندك بيضاء؟ قال: بلى. قال: فيدي؟ قال: بلى. فتناول العصا التي كانت في يد هانيء فضرب بها وجهه حتى كسر جبهته ثم قدّمه فضرب عنقه ثم أرسل إلى مسلم بن عقيل، فخرج عليهم بسيفه فما زال يناوشهم ويقاتلهم حتى جرح وأسر فعطش وقال: اسقوني ماء، ومعه رجل من آل أبي معيط ورجل من بني سُليم. فقال: شمر بن ذي جوشن: والله لا نسقيك إلا من البئر. وقال المعيطيّ: والله لا نسقيه إلا من الفرات. فأتاه غلام له بإبريق من ماء وقدح قوارير ومنديل فسقاه، فتمضمض فخرج الدم فما زال يمج الدم ولا يسيغ شيئاً حتى قال: أخّره عني، فلما أصبح دعاه عبيد الله ليضرب عنقه، فقال له: دعني أوصي. فقال: أوص. فنظر في وجوه الناس فقال لعمر بن سعد: ما أرى هاهنا أحداً من قريش غيرك فادن مني حتى أكلمك. قال: فدنا منه. فقال له: هل لك في أن تكون سيد قريش؟ قال نعم. قال: إنّ حسيناً ومن معه وهم تسعون إنساناً بين رجل وامرأة في الطريق فارددهم واكتب إليه بما أصابني. ثم أمر عبيد الله فضرب عنقه.