وقال بشر بن الوليد: كان والله المأمون الملك حقاً، ما رأيت خليفة قط كان الكذب عليه أشد منه على المأمون، وكان يحتمل كل آفة تكون بالإنسان إلا الكذب، قال فقال لي يوماً: صف لي أبا يوسف القاضي فإني لم أره، فوصفته له، فاستحسن صفته وقال: وددت أن مثل هذا بحضرتنا فنتزين به، ثم أقبل عليّ وقال: ما في الخلافة شيء إلا وأنا أحسن أن أدبّره وأبلغ منه حيث أريد وأقوى عليه إلا أمر أصحابك، يعني القضاة، وما ظنك بشيء يتحرج منه علي بن هشام ويتوقى سوء عاقبته ويكالب عليه الفقهاء وأهل التصنع؟ قال قلت: يا أمير المؤمنين ما أدري ما تقصده فأجيب عنه! قال: لكني أدريه وأُدريك ولا والله ما تجيبني عنه ولا فيه بجواب مقنع، ثم قال: ولينا رجلاً أشرتَ به قضاء الأبلّة وأجرينا عليه في الشهر ألف درهم وما له صناعة ولا تجارة ولا كان له مال قبل ولايتنا إياه...... وولينا رجلاً آخر قضاء دمشق وأجرينا عليه ألف درهم في الشهر أشار به إلي محمد بن سماعة، فأقام بها أربعة عشر شهراً، فوجهنا من يتبع أمواله في السر والعلانية ويتعرف حاله، فأخبر أنه وجد ما ظهر من ماله في هذا المقدار من دابة وغلام وجارية وفرش وأثاث قيمته ثلاثة آلاف دينار، وولينا رجلاً أشار به إلي فلان نهاوند فأقام بها أربعة وعشرين شهراً، فوجهنا من يتبع أمواله فأخبرنا أن في منزله خدماً وخصياناً بقيمة ألف وخمس مائة دينار سوى نتاج قد اتخذه، فهات ما عندك من الجواب! فقلت: ما عندي يا أمير المؤمنين جواب، قال: ألم أعلمك؟ ثم قال: وأكبر من هذا وأطم أني فزعت إلى علي بن هشام في رجل أوليه القضاء فقال: قد أصبت واحداً والله يشهد أنه سرني ورجوت أن يكون بحيث أحب، قلت: فاغدُ به عليّ، قال: أفعل، ثم غدا، فقلت: أين الرجل؟ فقال: لم أجده في الفقه بالموضع الذي يجب أن يتصل صاحبه بأمير المؤمنين، قال: فأنكرت عليه وأظهرت الغضب، فقال: يا أمير المؤمنين إن الرجل الذي ذكرته لك بالأمس هو علي بن مقاتل وكان عندي من أهل العفاف والستر، فانصرفت بالأمس على أن أحضره، فوجهت إليه وأنا لا أشك أنه سيظهر الكراهية في ما أراد له أمير المؤمنين وإن كان يستبطن غيرها ويستعفي كفعل من يتصنع أو يكره ذلك بالحقيقة، فلما جاءني ألقيت إليه الذي أردته له فما تمالك أن وثب فقبّل رأسي، فعلمت أنه لا خير عنده وأنه لو كان من أهل الفضل والخير لعدّ الذي دعي إليه إحدى المصائب، فلم أر لنفسي أن أحضره ولا أن يستعان بمثله، فقلت: جزاك الله خيراً عن إمامك أحسن ما جزى امرأً عن إمامه وهم دينك ونفسك، قال بشر: فبهتّ وانقطعت ولم أُحر كلمةً..... فقال: لا ولكن إن أردت العفيف النظيف الزاكي التقي الطاهر فقاضي الري هو بالحالة التي فارقته عليها والله ما غير ولا بدّل، فأما قولكم في يحيى بن أكثم فما ندري ما عيبه إلا أن ظاهره أنه أعف خلق الله عن الصفراء والبيضاء، ميل إلينا من أموال الحشوية أربع مائة ألف دينار، فأي نفس تسخو بهذا؟ قال بشر: فقلت يا أمير المؤمنين ما لك في الخلفاء شبيه إلا عمر بن الخطاب فإنه كان يفحص عن عمّاله وعن دفين أسرار حكّامه فحصاً شافياً، فكان لا يخفى عليه ما يفيد كل امريء وما ينفق، وكان من نأى عنه كمن دنا منه في بحثه وتنقيره، فقال المأمون: إن أهمّ الأمور كلها أمور القضاة والحكام إذ كنا قد ألزمناهم النظر في الدماء والأموال والفروج والأحكام فوددت أني أجد مائة حاكم وأني أجوع يوماً وأشبع يوماً.