ذلكم هو الغلام الذي كان يرعى الأغنام بالأمس القريب لسيد من سادات مكة في شعب من شعابها، واستمعوا إليه وهو يحدثنا بسعادة عن أول لقاء له مع أستاذه ومعلمه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ففي حديث صحح إسناده الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، في ترجمته لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، يقول ابن مسعود: كنت أرعى الأغنام لـ عقبة بن أبي معيط في شعاب مكة، فمر علي يوماً رسول الله وأبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الغلام الأمين: هل من لبن يا غلام! أي: هل عندك من لبن لتكفينا؟ فقال الغلام: نعم -ولكن انظروا ماذا قال- ولكني مؤتمن! انظروا إلى هذه العبارة التي قالها ابن مسعود في الجاهلية قبل الإسلام! ولكني مؤتمن، فظلت هذه العبارة مع ابن مسعود بمثابة البوصلة التي تحدد اتجاه حياته إلى أن لقي الله جل وعلا.
ولكني مؤتمن، لا أستطيع أن أقدم لكم اللبن، انظروا إلى الأمانة! في جاهليته أمين، فما ظنكم بأمانته بعد أن شرح الله صدره بالإسلام، ولكني مؤتمن! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل؟ قال: نعم، ومتى كانت الشاة التي لم ينز عليها الفحل تدر لبناً؟! قال: ائتني بها، فأتاه بشاة لم ينز عليها الفحل، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها، ودعا الله جل وعلا، فدر الضرع باللبن، فجاءه الصديق بإناء مجوف، فملأه النبي صلى الله عليه وسلم باللبن وشرب وسقى أبا بكر وسقى الغلام، والغلام ينظر في دهشة واستغراب إلى هذه المعجزة! نعم، وإنها لمن أهون المعجزات، وسوف يرى هو بعينيه بعد ذلك العجب العجاب، فهو الذي روى كما ورد في صحيح مسلم أنه قال: والله إنكم لتعدون الآيات عذاباً، وإن كنا لنعدها بركة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالذي نفس محمد بيده لقد كنا نجلس لنأكل مع رسول الله فنسمع تسبيح الطعام في يديه صلى الله عليه وسلم! فنظر الغلام بدهشة واستغراب لشاة لا تدر لبناً؛ لأنه لم ينز عليها الفحل بعد، وإذ بها تدر اللبن، ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم للضرع: اقلص، فقلص الضرع أمام عيني هذا الغلام المبارك! فذهب هذا الغلام الكريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعرفه، فقال له: يا عماه! علمني من هذا القول الذي قلت، فمسح النبي رأسه وقال: إنك غلام معلم، ألم أقل: إنه الغلام المعلم؟! إي والله إنه الغلام المعلم، لم يقل: إنك غلام ستتعلم، وإنما قال: إنك غلام معلم، وبالفعل لم يمض غير قليل وإذ بهذا الفتى وإذ بهذا الغلام المعلم يسمع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيذهب إليه لينطق شهادة الحق: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ ليكون من السابقين الأولين الذين أسلموا قبل أن يدخل النبي دار الأرقم بن أبي الأرقم.