بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! بعد طول غياب نعاود مرة أخرى حديثنا عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ونحن اليوم على موعد مع رجل لا ينتمي لعصر الوحي تاريخياً، ولكنه نقل عصر الوحي بكل قيمه ومثله وفضائله إلى دنيا هائجة مائجة مفتونة مضطربة، وقد نجح في ذلك نجاحاً يأخذ العقول ويبهر الألباب! إننا اليوم على موعد مع رجل ومع مثل رائد من أروع الأمثلة دلالة على صفاء عنصر هذه الأمة، وعلى نقاء معدنها، وسرعة رجوعها إلى الحق إذا وجدت رائداً يقودها على السواء، غير منحرف بها، ولا ضال معها، فهي تسير معه، وتتبع ظله، وترتفع به من حضيض وهدتها آخذة طريقها إلى السمو الإيماني، والقيادة الربانية، والمكانة العلية التي اختارها لها ربها عز وجل، فلقد استطاع رائدنا وقدوتنا وبطلنا اليوم، استطاع بصدق إيمانه، وعمق يقينه، وصفاء نفسه ونقاء سريرته، وشدة ورعه وزهده وخوفه من الله عز وجل، استطاع أن يضع يده على موطن الداء الذي استشرى في أمته، واستطاع أن يستل جرثومته بيد بيضاء نقية، فعادت الأمة مرة أخرى وكأنها تعيش في عصر النبوة من جديد! ليس في عشرين عاماً ولا في عشرة أعوام، وإنما في عامين ونصف إلا قليلاً! إننا اليوم على موعد مع حفيد الخلافة والملك، إنه رضيع المباهج والنعيم، ريان الشباب، وناعم الإهاب، وفواح العطور والعبير، أجل! فإن هذا الشاب التقي الورع كان قبل خلافته يضمخ ثيابه بأغلى وأرقى العطور، ويسكن أعلى القصور، ويركب الصافنات الجياد، ويلبس أبهى الحلل، ويأكل أشهى الطعام، وهاهو ذاته يتحول في التو واللحظة بعد أن أعلن خليفة للمسلمين، يتحول هذا الشاب ابن السادسة والثلاثين -لا أقول: ابن الستين ولا ابن السبعين- يتحول في اللحظة إلى زاهد ناسك تقي عابد ورع، يترك متاع الدنيا، ويزهد في كل ملذات الحياة، ويدخل على زوجته التقية النقية الوفية الصابرة، وهي من هي؟! هي بنت الخليفة والخليفة جدها أخت الخلائف والخليفة زوجها يدخل عليها بطلنا وقدوتنا اليوم ويخيرها بين أمرين: بين أن ترد كل ما تملك من متاع وجواهر وحلل إلى بيت مال المسلمين، وأن تعيش معه من اليوم عيشة الزهد والورع والكفاف! أو أن يسرحها سراحاً جميلاً! فتختار الذكية النقية التقية هذا البطل وهذا العملاق على متاع الدنيا الزائل! ولم لا؟! وبطلنا وقدوتنا اليوم حفيد فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب، إنه معجزة الإسلام، وولد الإسلام العزيز عمر بن عبد العزيز.
أيها الأحبة! والله إن الصعوبة التي تواجهني الآن وأنا أتحدث عن هذا العملاق لتتمثل في: ماذا أقول وماذا أدع، من هذا الحشد الهائل من الحقائق الناصعة التي ترويها لنا سيرة هذا الورع التقي القوي النقي، وإن كانت الحكمة العربية القديمة تقول: من أخصب تخير، أي: من وجد الأرض الخصبة تخير المرعى، فإني أجدها الآن تنقلب عليَّ، إني أجدها الآن: من أخصب تحير!