أيها الأحبة! لقد وقع على مدار تاريخ الأمة الطويل بسبب التعصب المذهبي البغيض المقيت الأعمى ما يؤلم القلب ويحزن النفس، ويسود صفحة التاريخ، ومن أعجب ما قرأت في هذا: ما ذكره الإمام محمد رشيد رضا في مقدمته الجميلة التي قدم بها لكتاب (المغني مع الشرح الكبير) للإمام القدير ابن قدامة، ذكر هذا الرجل بعض صور هذا التعصب البغيض فذكر شيئاً يذهل العقل ويأخذ الفؤاد، ومما ذكر هذا الشيخ رحمه الله تعالى: أن واحداً من متعصبي الحنفية -أي: من المتعصبين للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى والإمام براء من هذا التعصب الأعمى- يرى جواز قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة، فوقف يوماً في الصف ليصلي ووقف إلى جواره رجل قرأ الفاتحة في الصلاة، فما كان من هذا المتعصب الحنفي إلا أن ضرب أخاه في الصف ضربة قوية في صدره فأوقعت الرجل على ظهره، وهما في الصلاة بين يدي الله جل وعلا.
وذكر هذا الشيخ أيضاً في هذه المقدمة لمن أراد أن يراجعها مفصلة في كتاب (المغني مع الشرح الكبير) لـ ابن قدامة، ذكر أن رجلاً جلس في التشهد وأشار بسبابته يحركها عند التوحيد، فما كان من رجل آخر لا يرى جواز ذلك إلا أن انقض على سبابته فكسرها وهما في الصلاة بين يدي الله عز وجل.
وذكر صورة مزرية للتعصب البغيض الأعمى حدثت في وقت من الأوقات في بلاد طرابلس بالشام، ذكر أن التعصب وصل إلى حد أن جعلوا لكل مسجد أربعة أئمة، محراب لإمام الشافعية، ومحراب لإمام المالكية، ومحراب لإمام الحنفية، ومحراب لإمام الحنابلة حتى يأتي أصحاب كل مذهب ليصلوا وراء إمامهم الذين يرتاحون إليه ويعتقدون بمذهبه ويؤمنون بقول إمامه.
وهل هذا الكلام ضرب من الوهم ونسج من الخيال؟ كلا! إنها حقائق مسطورة في بطون الكتب لمن أراد أن يراجعها وأن يطلع عليها! بل قد لا تصدقوا إذا قلت لكم: إن التعصب الأعمى بلغ إلى حد تحريم زواج الحنفي من الشافعية، فمن كان ينتمي إلى مذهب الحنفية حرم عليه أن يتزوج بامرأة تنتمي إلى مذهب الشافعية.
وهذا هو التعصب البغيض الأعمى لهذه المذاهب، وأصحابها براء منه، وأقول بملء فمي -كما سأوضح لكم ذلك بالدليل- إن هذا هو التعصب البغيض الأعمى الذي مزق الشمل وشتت الصف وبذر بذور الخلاف، وها نحن نرى آثاره المريرة في هذه الأيام بين بعض أبناء شباب هذه الصحوة المباركة، فقد لا يقبل الأخ أن يلقي السلام على أخيه إن عرف أنه لا ينتمي إلى جماعته، أو إن عرف أنه لا يؤمن باعتقاده وبفكره الذي يدعو إليه، وقد نرى أن بعضهم لا يتوقف عند عدم إلقاء السلام فحسب، بل ينتقل إلى التشهير والتحقير والاعتداء والازدراء، وهذه من آثار التعصب المذهبي البغيض الأعمى.
أيها الأحباب! إن إسلامنا دين عظيم واسع، وإن كتابنا هو القرآن، وجماعتنا هي جماعة المسلمين، وشيخنا وإمامنا وقدوتنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكل من نهج على نهجه بالدليل الصحيح من القرآن والسنة على مذهب وفهم سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.