[ومضات من حياة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله! وأسأل الله جل وعلا أن يطهر هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وأن يزكي هذه الأنفس، وأن يشرح هذه الصدور، وأن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا الحادي عشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ولا زلنا -بفضل الله جل وعلا- نطوف مع حضراتكم في بستان سير أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ذلكم البستان الذي لا ينتهي عبيره، ولا ينقطع شذاه، ولا تذبل أزهاره، ولا تموت وروده، ولا يمل المتجول بين أغصانه وأشجاره وأزهاره أبداً.
ومن ثم فلقد جاءني في اللقاء الماضي بعض الأحبة، وقالوا: بقي كثير من الصحابة كنا نتمنى أن نسعد بالحديث عنهم، قبل أن تبدأ حديثك عن أمهات المؤمنين وعن الصحابيات رضوان الله عليهن، فذكرت أحبابي بما ذكرت في أول لقاء لنا من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، حيث قلت: إنه ليس من الصعوبة أن نقطف زهرة وحيدة في وسط صحراء مقفرة، ولكن من الصعوبة بمكان أن نقتطف زهرة في وسط حديقة غناء، تضم كل أنواع الزهور، وتشمل كل ألوان الورود، وتحوي كل أصناف العبير، لذا، فلو توقفت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لاحتجنا والله إلى سنوات طوال، وليس ذلك مبالغة.
لماذا؟ لأن أصحاب الحبيب المصطفى هم عمر الزمن، ونبض الحياة، ومن المحال أن نحسب أنفاس الزمن، وأن نقدر نبض الحياة.
وهذه السلسلة -أيها الأحبة- ليست خاصة بأصحاب النبي رضوان الله عليهم جميعاً وحدهم، وليست تاريخاً ولا سرداً للسيرة، وإنما نقدمها في عجالة سريعة للعظة والعبرة من ناحية، ولتقديم القدوة الصالحة الطيبة من ناحية أخرى؛ ليتربى عليها جيل الصحوة المباركة في وقت قدم فيه التافهون والساقطون والفارغون؛ ليكونوا القدوة والمثال، ولذا فإني لن أتوقف طويلاً أيضاً مع أمهات المؤمنين ومع الصحابيات رضوان الله عليهن، لننتقل بعد ذلك للحديث عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى في عصور التابعين ومن بعدهم، فتعالوا بنا قبل أن تطاردنا عقارب الساعة؛ لنلقي السمع والبصر والفؤاد بين يدي الصديقة بنت الصديق، والعتيقة بنت العتيق، والحبيبة بنت الحبيب البكاء الرقيق.
إننا اليوم على موعد مع معلمة العلماء، ومؤدبة الأدباء، وبليغة الفصحاء، ومحدثة الفقهاء، إنها الحصان الرزان المبرأة من السماء، إنها حبيبة سيد المرسلين، والمبشرة بصحبته في جنة رب العالمين، إنها أمنا عائشة أم المؤمنين عليها من الله الرحمة والرضوان.
أعيروني القلوب والأسماع -أيها الأحبة- فليست هذه اللقاءات خاصة بنسائنا فحسب، وإنما كل كلمة في هذه اللقاءات للرجال قبل النساء، وللنساء قبل الرجال، فهي هامة لكل مسلم ومسلمة في وقت لا نعرف فيه إلا القليل القليل عن هؤلاء الأطهار، وعن هؤلاء الأبرار الأخيار، وفي الوقت الذي صم الإعلام آذاننا وأعمى أبصارنا بسير وتاريخ الأقزام، فعلينا أن نعرف تاريخ هؤلاء، وأن نقف أمام سيرتهم، ولذا فإني أرى بأنه من الواجب علينا أن ندرس سيرهم، وسيرة الصحابيات رضوان الله عليهن؛ لنتعرف على ديننا، فهؤلاء هم الذين حولوا القرآن والإسلام إلى واقع حي، وإلى مجتمع متحرك منظور.