ظللت الأبوة الرحيمة هذا البيت، وأنعشت الأمومة الكريمة أنفاس هذا البيت، ما ظنكم بأب هو رسول الله، وبأم هي خديجة الطاهرة صاحبة الشرف والعقل والكمال؟! أجل! إنه وسام سيد الرجال لـ خديجة، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم -واسمعوا إلى هذا المثال، وإلى هذه المنقبة يا عباد الله! والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري -: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) .
وفي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير نسائها مريم بنت عمران، خير نسائها خديجة بنت خويلد) والراجح كما قال الحافظ ابن حجر: أن المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها) أي: خير نساء زمانها، فـ مريم بنت عمران خير نساء زمانها، وخديجة بنت خويلد خير نساء زمانها بشهادة من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
إن خديجة لم تبلغ هذه المنزلة الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، وإنما بلغت خديجة هذه المنزلة الرفيعة عند ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، هل سمعت يا عبد الله بامرأة أنزل الله جل وعلا جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليبغلها من ربها جل وعلا السلام؟! إنها خديجة رضي الله عنها، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: أتى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى خديجة مقبلة، فقال جبريل عليه السلام:(يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني) فإذا أتت فأقرئها السلام ممن؟! من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، والله إن الحلق ليجف، وإن القلب ليخشع، وإن الجوارح لتسكن أمام هذا السلام الإلهي الكريم من الله جل وعلا، وعلى لسان من؟! على لسان جبريل، إلى لسان من؟! إلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، إلى من؟! إلى خديجة رضي الله عنها، (يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت فأقرئها السلام من ربها ومني) أي: ومن جبريل، وانظروا إلى فقهها، انظروا إلى عقلها، انظروا إلى علمها، انظروا إلى ذكائها وفطنتها، ما قالت: وعلى الله السلام، انظروا إلى كمال العقل والفطنة والذكاء، اسمعوا ماذا قالت خديجة العالمة الذكية العاقلة، فقد ورد في سنن النسائي:(إن الله هو السلام، ومنه السلام -فالسلام اسم من أسمائه-، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته) .
يا له من علم! هل انتهت البشارة والمنقبة والفضيلة عند هذا الحد؟! كلا.
فتعالوا بنا لنقرأ الحديث كله، ولنستمع إلى الفضل كله، قال جبريل:(يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب - أي: من لؤلؤة مجوفة- لا صخب فيه ولا نصب) .
وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فهل أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً صخباً؟! هل أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ضجيجاً؟! هل رفعت صوتها يوماً على حبيب الله صلى الله عليه وسلم؟! كلا، وإذا كان ذلك كذلك فإن الجزاء من جنس العمل، فليكن بيت خديجة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، هدوء كامل وراحة تامة؛ نظير ما أسعدت النبي صلى الله عليه وسلم بالهدوء والراحة التامة.