[رحلة الشافعي إلى مصر]
أيها الأحبة! وبعد فترة قليلة رحل الشافعي في سنة مائتين -هذا بإيجاز شديد- إلى مصر، وهذه الفترة تعتبر من أهم الفترات العلمية والفقهية في حياة الإمام الشافعي، حيث أعاد النظر في بعض كتبه كالرسالة، وكتاب الحجة، وألف الشافعي في مصر كتابه الشهير المعروف بكتاب الأم، وهو عبارة عن كتاب ضخم يحوي كتباً كثيرة ألفها الإمام الشافعي في مصر، ولذا إذا قرأتم في كتاب من الكتب قاله الإمام الشافعي في القديم، فاعلموا أن هذا ما قاله الشافعي في بلاد العراق، وإذا قرأتم: قاله الشافعي في الجديد، فاعلموا أن هذا ما قاله الشافعي في مصر، وهذا دأب العالم المخلص المتجرد الذي يدور مع الدليل الصحيح ومع الحق حيث دار، ولا عيب في ذلك -على الإطلاق- على الإمام الشافعي، فقد يدلل بدليل ثم بعد ذلك يتضح له أن هذا الدليل دليل ضعيف، فيعرض عنه، ويأتي بدليل صحيح آخر، وهذا دأب العلماء المخلصين المتجردين لله جل وعلا، الذين يدورون مع الدليل الصحيح حيث دار، ويدورون مع الحق دائماً وأبداً حيث دار.
وانتشر ذكر الشافعي في مصر، وأتاه الناس من كل مكان، بل ومن كل بلد آخر غير مصر، وازدحمت حلقة الشافعي ازدحاماً لا عهد لأهل مصر به من قبل، كان المكان يضيق بطلبة الشافعي، وكان يجلس بين يديه الشيوخ الكبار فضلاً عن طلبة العلم، لأن الله تعالى قد آتاه حجة قوية، وعذوبة لسان، وفصاحةً وبياناً ومنطقاً وبلاغةً.
ومن أجمل ما قرأت في هذا أن تلميذ الشافعي الإمام المزني، ذهب إليه يوماً، يقول المزني: خطر بخاطري مسألة تتعلق بذات الله -انتبهوا إلى حجة الشافعي أيها الأحبة- فقلت: لا يخرج ما في ضميري إلا الشافعي، فذهبت إليه في مجلسه وسألته عنها، فغضب الشافعي ونظر إلي وقال: أبلغك أن الله تبارك وتعالى قد أمر بالسؤال عن هذا؟ قال: لا.
قال: أبلغك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرك بالسؤال عن هذا؟ قال: لا.
قال: أبلغك أن الصحابة رضوان الله عليهم قد تكلموا في هذا؟ قال: لا.
قال: فكم نجماً في السماء؟ قال: لا أعلم.
قال: فكوكب منها أتعلم جنسه وطلوعه وأفوله ومم خلق؟ قال: لا.
فقال الشافعي: فشيء تراه بعينك من خلق الله عز وجل لا تعلمه، تتكلف أن تعلم خالقه جل جلاله.
ثم قال الشافعي: يا هذا! إذا هجس في خاطرك شيء من هذا فارجع إلى الله تبارك وتعالى وارجع إلى قوله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤] ثم قال له الشافعي: فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك.
انظر لتلك الشجره ذات الغصون النضره
كيف نمت من حبةٍ وكيف صارت شجره
ابحث وقل من ذا الذي يخرج منها الثمره
ذاك هو الله الذي أنعمه منهمره
ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدره
سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا
سل الزهر مزداناً سل الروض والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما سل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا
ولو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
أإله مع الله؟ لا رب غيره ولا معبود سواه.
قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا
بل سائل الأعمى خطا وسط الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاكا
بل سائل المبصر يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا
وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا
وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا
بل سائل اللبن المصفى بين فر ث ودم من ذا الذي صفاكا
أإله مع الله.
فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٣٣-٤٠] أإله مع الله؟!!! لا رب غيره ولا رب سواه.
الله ربي لا إله سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو
الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه
والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه
أإله مع الله؟!! لا رب غيره ولا معبود سواه.