وبدأ مالك يطلب العلم في سن مبكرة جداً، على أيدي هؤلاء الأعلام الكبار، حتى قيل: إن مالكاً طلب العلم على نحو مائة شيخ من الشيوخ الكبار، والأئمة الأعلام كـ محمد بن شهاب الزهري رحمه الله تعالى الذي روى له الإمام مالك في الموطأ مائة واثنين وثلاثين حديثاً، وكـ ربيعة بن أبي عبد الرحمن الذي قال عنه مالك بعد موته: لقد ذهبت حلاوة الفقه بعد موت ربيعة، وكـ نافع مولى عبد الله بن عمر الذي كان يلقب حينئذٍ بفقيه أهل المدينة، والذي لازمه الإمام مالك ملازمة شديدة، وروى عنه في الموطأ ثمانين حديثاً، وكان أهل الحديث يلقبون ويسمون رواية مالك عن نافع عن ابن عمر بالسلسلة الذهبية؛ لجلالة وقدر هؤلاء الرواة الثقات الكبار جميعاً.
أيها الأحباب: ولعل ما ذكرت هو السبب الرئيسي الذي اختلف فيه بعض أهل العلم: ما الذي لم يجعل مالكاً يرحل لطلب العلم كغيره من العلماء؟ فمن المعلوم أن الإمام مالكاً لم يرحل لطلب العلم، مع أن الرحلة لطلب العلم كانت من مقومات العالم، لا سيما إن كان من المحدثين، وبالرغم من ذلك لم يرحل مالك لطلب العلم، لماذا؟ لأن المدينة كانت تزخر بالعلماء الأعلام، وبالأئمة الأطهار، وبالشيوخ الكبار من أهل العلم والخير والفضل، وكان مالك يرى أن أصل العلم هو علم أهل المدينة، وأن أصل الرواية هي رواية أهل المدينة، فلماذا يرحل عن المدينة وقد حباها الله بهذا الكم الكبير من أهل العلم والفضل والخير.
ولذا أحبتي في الله! في أعوام قليلة جداً لفت مالك جميع الأنظار إليه، فلقد جلس في السابعة عشرة من عمره ليدرس العلم للناس، فنظر إليه جميع الشيوخ الكبار على أنه إمام أهل المدينة في الغد القريب، وفعلاً -أيها الأحباب- انتشر علمه، وظهر فضله، وعلت منزلته، وذاع صيته في الأمصار، وانتشر علمه في الأقطار، وضربت إليه أكباد الإبل، وارتحل الناس إليه من كل مصر، وأتى إليه الناس من كل قطر.
وهكذا في فترة وجيزة شهد له شيوخه وعلماؤه من الأئمة الكبار المعروفين، شهدوا له بالخير والعلم والفضل، وأذعنوا له بالإمامة، ومتع الله المسلمين بحياته وبقائه، فمكث الإمام مالك يفتي الناس ويدرسهم أكثر من سبعين سنة.
روى عنه في هذه المدة جمع غفير من كبار أهل العلم، سمعوا منه، ورووا عنه الحديث، أذكر على سبيل المثال منهم: الإمام سفيان بن عيينة، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن يحيى النيسابوري شيخ الإمام مسلم، وقتيبة بن سعيد شيخ الإمام البخاري، والشافعي، وأبو حنيفة مع أنه كان يكبره سناً، وروى عنه هارون الرشيد، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وغيرهم من الأئمة الأعلام، حتى قال أهل العلم: لقد سمع من مالك وروى عنه الحديث أكثر من ألف شيخ.
ووالله -يا أحباب- لو لم يكن من حسنات مالك إلا الشافعي لكفى، فإن الشافعي هو تلميذ الإمام مالك، حتى قال الشافعي قولته الكبيرة الخالدة:(ليس أحد أمن علي في دين الله من مالك بن أنس) .