ولما توفي الإمام مالك رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلد الله الحرام إلى مكة المكرمة، وما لبث الشافعي في مكة إلا قليلاً، ثم رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلاد اليمن لطلب العلم، -والله ما كانوا يركبون طيارات، ولا سيارات مكيفة، وإنما يركبون الدواب، إما على الحمار أو على الحصان أو على البغلة ويمشون تحت وهج هذه الشمس الخارقة، ينخفضون في وادٍ ويرتفعون على جبل، أما الآن وقد يسرت لنا بفضل الله جل وعلا جميع وسائل وأدوات طلب العلم إلا أننا نرى تكاسلاً رهيباً، وفرقاً شاسعاً، وبوناً كبيراً بيننا وبين هؤلاء الكرام- رحل الشافعي إلى اليمن، وما لبث الشافعي إلا قليلاً حتى انتشر ذكره، وعلا قدره، وظهر فضله على جميع الشيوخ والعلماء وهو الذي ذهب طالباً للعلم حتى قال له شيخه مسلم بن خالد الزنجي حينما عاد من المدينة إلى مكة، قال له: افتِ يا أبا عبد الله، فإنك الآن أهل للفتيا، وهو غلام حدث صغير.
فاق الشافعي أقرانه بل وشيوخه في اليمن، وكان على اليمن والٍ يقال له: حماد البربري، من قبل خليفة المسلمين هارون الرشيد، وكان ظلوماً غشوماً جهولاً يظلم الناس، ولم يصبر الشافعي على هذا، فكثيراً ما كان يندد بظلمه في مجالس علمه، فلما سمع هذا الوالي بذلك، أرسل رسالة إلى خليفة المسلمين هارون الرشيد في بغداد يقول له: إن عندنا رجلاً من ولد شافع المطلبي لا أمر لي معه ولا نهي، فأصدر الخليفة أمراً لهذا الوالي أن يرسله إلى بغداد، وكبل هذا الوالي الشافعي في الحديد والقيود بتهمة الخروج على الدولة -بدعة قديمة حديثة- وذهب به إلى خليفة المسلمين في بغداد التي كانت عاصمة الخلافة حينئذٍ.
فلما دخل الشافعي على هارون، قال الشافعي: مهلاً يا أمير المؤمنين، فأنت الراعي وأنا المرعي، وأنت القادر على كل ما تريد مني، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجلين، أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبداً له، أيهما أحب إلي؟ قال هارون: الذي يراك أخاه أحب إليك.
فقال الشافعي: فهو أنت يا أمير المؤمنين، فإنكم ولد بني العباس، وإننا إخوتكم من بني المطلب، وأنتم تروننا إخوة لكم وهم يروننا عبيداً لهم، فهل يعقل أن أترك من يقول: إني ابن عمه، وأن أذهب إلى من يقول إني عبد له، فاستوى هارون في مجلسه وعلم أنه أمام عالم فذ، وأمام واعظ كبير.
ونظر إليه هارون وسعِد سعادة غامرة وقال له: عظني، فوعظه الشافعي حتى أبكاه واخضلت لحيته بالبكاء الشديد، وأمر له هارون بعطاء كبير جداً، يقول الشافعي: والله ما ملكت من قبلها ألف دينار، وعاش الشافعي في بغداد معززاً مكرماً يعلم الناس ويفتيهم، وينشر العلم بينهم، ولم يلبث فيها إلا قليلاً حتى عاد مرة أخرى إلى مكة زادها الله تشريفاً وتكريماً.