[إسلام مصعب بن عمير في دار الأرقم]
أيها الأحبة! تعالوا بنا لنلقي السمع والبصر والفؤاد، بين يدي أول الدعاة، وسيد التقاة، الذي ترك الدنيا بمتاعها من أجل الآخرة ونعيمها، الذي رضي بالهجرة بعد القرار، وقبل الجوع بعد الشبع، واطمأن للفقر بعد الغنى، واستبشر واطمأن بالعذاب بعد النعيم، إنه غرة فتيان قريش، وأوفاهم شباباً وبهاءً ونضرة وجمالاً، إنه لؤلؤة ندواتها، وزهرة شبابها، وأعطر رجالها، وقطب الرحى بين أبنائها.
إنه الفتى الريان المدلل، المترف المنعم، الذي نال من تدليل وحب أبويه ما لم ينله شاب آخر في مكة كلها، فلقد عاش في بيت غني ثري من بيوت مكة شرفها الله، فاكتنفته النعمة من كل ناحية ومن كل جانب، وفي يوم من الأيام يسمع هذا الفتى المنعم نبأ الدعوة الجديدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، والتي بدأ خبرها يسري في مكة كسريان الماء بين الصخور والحجارة، يسمع الفتى الخبر، ويسمع كلاماً جديداً على عقله، يسمع الكلام الذي بدأ يردده الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم، إنه كلام يحرك العقول الذكية، ويخاطب الفطر السليمة النقية، فيه قوة تبهر العقل النقي، وتمس الروح الصافية، وتنادي أعماق الوجدان.
ومن هنا أيها الأحبة! ومن هذه الساعة دخل هذا الشاب النقي صراعاً رهيباً مع نفسه، بين بيئته الجاهلية بكل موروثاتها: من نعيم وجاه، وملك وثراء وبذخ، وحسب وشرف ونسب وبين هذا الحق الأبلج الذي بدأ يسمعه لأول مرة يخاطب أعماق وجدانه: ما هذا الهراء؟! ما هذه الأصنام؟! ما هذه التماثيل التي لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر؟! هل هذا الكون خلقته هذه الأصنام؟ هل هذه الأصنام هي التي تستحق أن تعبد؟! كلا، إنه هراء، فلا بد من البحث عن الحق والحقيقة، وإذ بهذه الحقيقة تتجلى في كلمات محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليخرج الناس من ظلمات الشرك ومجاهل الوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان.
ولكن لم يطل الصراع، ولم يدم التردد، فها هو الفتى الكريم يخطو أولى خطواته على الطريق إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، لقد انفتح عقله ووجدانه للحق، وسرى النور إلى قلبه.
ها هو الفتى الكريم يأخذ مكانه بين الصحب الكرام في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ولم يكد الحبيب صلى الله عليه وسلم يقرأ آيات القرآن وتنساب الآيات الكريمة من قلب محمد بن عبد الله متألقة على شفتيه نوراً ولؤلؤاً، وإذ بهذه الآيات تأخذ طريقها إلى القلوب مباشرة قبل الأسماع، وهل هناك قارئ يوصل القرآن إلى القلوب غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وتجد الآيات طريقها إلى قلب هذا الفتى الكريم المبارك؛ ليكون فؤاده في هذه الليلة الكريمة هو الفؤاد الموعود بكل خير، وسرعان ما تمتد يد الحبيب صلى الله عليه وسلم برحمة وشفقة وحنان لتلامس هذا الصدر المتوهج، وهذا الفؤاد المتوثب، ليحس الفتى بسكينة عميقة بعمق المحيطات والأنهار، ولأول مرة وإذ بالكلمات تسابق شفتيه وتتردد مشرقة يردد الشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودموع الخشوع والفرح تنحدر على وجنتيه كحبات لؤلؤ إنه الفتى الذي تحول في لمح البصر من أقصى مجاهل الوثنية إلى أقصى رحاب التوحيد والإيمان! إنه مصعب الخير، مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه.
ويخفي مصعب إسلامه عن أهله وعن قومه، كما كان يفعل المسلمون آنذاك التزاماً مع المنهج الحركي للدعوة الإسلامية في طورها السري، ولكن لم يستطع مصعب أن يخفي إسلامه لفترة طويلة من الزمن؛ لأنه لا يستطيع أن يخفي سيم الإيمان على وجهه؟! هل يستطيع أن يخفي سيم الإيمان التي أشرقت على وجهه وتحولت وترجمت فوراً إلى سلوك وواقع حياة؟! هل يستطيع أن يكتم مشاعره نحو ذلك النور الذي ملأ عليه قلبه ووجدانه وحياته؟! هل يستطيع أن يخفي عزوفه واحتقاره لتلك الأوثان والأصنام والمعبودات المزيفة؟! هل يملك أن يرجع يوماً واحداً إلى فساد الوثنية والجاهلية ولهوها وضلالها؟! كلا، فلقد خلع مصعب بن عمير منذ أول ساعة من ساعات إيمانه خلع رداء الجاهلية كله، على عتبة دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وهكذا أيها الأحباب! فإن الإيمان والجاهلية بجميع صورها لا يمكن على الإطلاق أن يجتمعان في قلب واحد، لذا لفت الله العقول الذكية والقلوب التقية إلى هذا فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:٢٥٦] ، فلابد من التخلية قبل التحلية، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:٢٥٦] ، فإن شرح الله صدرك للحق فينبغي أن تنابذ الجاهلية بجميع صورها وشتى أشكالها وألوانها، أما أن نعيش للإسلام بلون، ونعانق الجاهلية في ألوانها الأخرى فهذا لا يصح بحال، ولا يتفق الإيمان والوثنية أو وصورة من صور الجاهلية في قلب واحد مطلقاً.