[نجاح مصعب في دعوته وإسلام سادات المدينة على يديه]
أيها الأحبة! ولقد نجح سفير الإسلام الأول في المدينة المنورة نجاحاً منقطع النظير، وحول مصعب رضي الله عنه المدينة المنورة إلى جنان خضراء، فلقد أشرقت عليها حياة جديدة أشرقت عليها شمس التوحيد، ولكن من يحملون في صدورهم صخوراً وحجارة أزعجهم هذا الإيمان وهذا النور، وضيق عليهم أنفاس حياتهم تلك البهجة، فراحوا إلى سيدهم سعد بن معاذ ليضع حداً لهذا الأمر الذي استفحل، والحديث حسن بشواهده كما رواه ابن سعد وابن إسحاق.
فانظروا إلى هذا الحوار الكريم الذي دار بين سفير الإسلام الأول، وبين سيدين من سادات القوم، بين أسيد بن حضير وبين سعد بن معاذ، وكانا ما زالا على الشرك.
وصل الخبر إلى سعد، فقال لـ أسيد: لا أبا لك يا أسيد! ألا تذهب إلى هذين الرجلين الذين أقبلا علينا في ديارنا ليسفها ضعفاءنا، ازجرهما وانههما، فأخذ أسيد بن حضير حربته وانطلق إلى مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة اللذين ذهبا إلى حائط في دار بني ظفر في رحلة إلى دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، وها هو مصعب الخير وأسعد بن زرارة يجلسان مع مجموعة ممن أسلموا لله جل وعلا في ذلك الحائط، ويأتي أسيد ويركز حربته ويقف عليهما متشتماً قائلاً: ما الذي جاء بكما إلى ديارنا لتسفها ضعفاءنا؟! اخرجا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة! وينظر مصعب نظرة مبتسمة نظرة مشفقة حانية إلى سيد القوم ويقول له: أوتجلس فتسمع مني، فإن كان خيراً قبلته، وإن كان فيه شيئاً تكرهه عزلنا عنك ما تكره، فقال أسيد: والله لقد أنصفت، فركز حربته وجلس بين يدي مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، ويدعوه مصعب للإسلام، ويقرأ عليه آيات القرآن التي لو تنزلت على الجبال لصدعتها، فتتنزل آيات القرآن على قلب أسيد كحبات الندى على الزهرة الظمأى، ويتفتح ذلك القلب النقي، وتشرق تلك الفطرة السليمة، ويقول أسيد بن حضير كما قال أسعد ومصعب: والله لقد عرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم.
فقال أسيد بن حضير: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، ما تصنعون إن أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ فقالا: تغتسل، وتطهر ثوبيك، وتشهد شهادة الحق، وتصلي لله ركعتين.
فقام أسيد بن حضير الذي كان منذ لحظات إعصاراً يزمجر، وزلزالاً يدوي ويصرخ قام ليتحول إلى عصفور مبلل بماء المطر إلى حبات ندى إلى نسمات هواء وادعة تمر على الوجه في فصل الربيع بأنفاس الزهور، يقوم هذا الأسد الذي كان يزمجر، ويقوم مسرعاً ليغتسل ويطهر ثوبيه ويشهد شهادة الحق بين يدي الداعية العظيم، ويركع لله ركعتين، ثم ينظر إلى أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير ويقول: إن ورائي رجلاً هو سيد قومه لو اتبعكما لم يبق واحد من قومه بعد اليوم إلا على الإسلام، وإني سأرسله إليكما الآن.
وينطلق أسيد بن حضير، ويتحرك لدين الله فوراً، فليس هناك وقت للجلوس وللسكون، وإنما قام ليتحرك فوراً لدين الله جل وعلا بعد أن شرح الله صدره، ويذهب إلى سعد، وينظر إليه سعد بن معاذ، ويقول لقومه: أحلف بالله أن أسيد بن حضير قد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، ماذا فعلت يا أسيد؟ قال: نهيتهما وزجرتهما، ولم أر بهما بأساً، وأجاباني إلى كل ما أريد، وقالا لي: إن رأيت شيئاً تكرهه عزلنا عنك ما تكرهه، ولكني سمعت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وقد علموا أنه ابن خالتك ليخفروك -أي: لينقضوا عهدك- فغضب سعد بن معاذ وقام غاضباً لما سمع من خبر بني حارثة، وأخذ الحربة من أسيد بن حضير، وقال: ما أراك فعلت شيئاً، وانطلق سعد بن معاذ غاضباً إلى مصعب بن عمير وصاحبه رضي الله عنه وأرضاه، فوقف عليهما متشتماً، وقال لـ أسعد بن زرارة وهو ابن خالته: يا أبا أمامة! والله لولا ما بيني وبينك من قرابة ما رمت هذا مني، فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع مني فإن رأيت خيراً قبلته، وإن رأيت ما تكره عزلنا عنك ما تكره.
قال: والله لقد أنصفت، وركز الحربة وجلس بين يدي الداعية الكبير العظيم الحليم الصبور رضي الله عنه وأرضاه، فيعرض عليه مصعب الإسلام، ويقرأ مصعب عليه القرآن، وكانت فطرهم سليمة نقية تقية سرعان ما تتفتح إلى الحق كتفتح الزهرة لحبات الندى التي تتنزل عليها في يوم شديد الظمأ شديد الحرارة، فنظر سعد بن معاذ إلى الداعية الكبير وقال: والله ما أحسن هذا الكلام وأجمله، فما تصنعون إذا أدرتم أن تدخلوا في هذا الدين؟