[تثبيت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية نزول الوحي]
ومن هذا البيت انتشر ضياء ونور الإسلام على الدنيا كلها، وبدأ طور جديد في حياة خديجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الأربعين من عمره الشريف المبارك بدأت إرهاصات النبوة تتوالى، وكان أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا كانت مثل فلق الصبح كما ورد في صحيح البخاري، وحبب الله للنبي صلى الله عليه وسلم الخلوة والعزلة، فأحبت خديجة الخلوة والعزلة؛ لأنها تحب كل ما يحبه رسول الله، وهكذا الزوجة الصالحة، طالما أن زوجها ما أحب إلا طاعة الله عز وجل، وما أحب شيئاً فيه معصية لله ولرسوله، فلتحب الزوجة كل ما يحبه الزوج، أحبت الخلوة والعزلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى غار حراء بعيداً عن ضوضاء مكة، وبعيداً عن أصوات الشرك، وعن مشاهد القرابين التي تقدم للآلهة المكذوبة المدَّعاة؛ ليتفكر ويتدبر في غار حراء؛ تمده زوجته الصابرة الوفية بالطعام والشراب الذي يحتاج إليه.
وفي ليلة كريمة مباركة من ليالي شهر رمضان المبارك خشع جبل النور بصخوره وحبات رماله وذرات ترابه، بل وخشع الكون كله بوحوشه وهوامه ودوابه، بل وكأن كواكب السماء قد تركت أفقها البعيد ونزلت لتعانق جبل النور في هذه الليلة الكريمة المباركة.
ما الذي حدث؟ وما الذي جرى؟! إنه جبريل أمين وحي السماء يتنزل -لأول مرة- على جبل النور، على قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فها هو يدق على باب الغار ليضم الحبيب صلى الله عليه وسلم ضمة شديدة، ثم يرسله ويقول له:(اقرأ، فيقول الحبيب: ما أنا بقارئ، فيضمه جبريل ويغطه بشدة ثم يرسله ويقول: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ، ثم يضمه الثالثة ثم يرسله فيقول:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:١-٤] ) وتركه جبريل وانصرف.
وعاد الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى سكنه، عاد الحبيب إلى مصدر راحته، عاد الحبيب إلى مصدر شفائه وطمأنينته وسكينته، عاد إلى خديجة، عاد إلى هذا البيت الآمن المطمئن، عاد وهو يرجف فؤاده وهو يقول:(زملوني زملوني) ، فزملته الزوجة الصابرة الوفية رضي الله عنها، وانتظرت حتى هدأ روعه، ولما ذهب عنه الروع ذهبت إليه؛ لتستفسر منه الخبر، وهو يقول:(لقد خشيت على نفسي يا خديجة!) ما الذي جرى؟! فيقص عليها النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فماذا قالت؟ هل فزعت؟! هل خافت؟! هل ضربت وجهها؟! هل رفعت صوتها؟! إنما سكبت الطمأنينة والهدوء والأمن والأمان في قلبه وهي تقول له:(كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق، والله لا يخزيك الله أبداً) .
ولم تكتف الصابرة التقية الطاهرة بذلك، وإنما أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر، وكان يقرأ الكتاب العبراني، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فذهبت إليه خديجة وقالت له: يا ابن عمي! اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ماذا ترى يا ابن أخي! فقص عليه النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا والله الناموس الذي أنزله الله على موسى، ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً صغيراً- ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك! فقال النبي عليه الصلاة والسلام:(أومخرجي هم؟! قال: نعم، ما من أحد جاء بمثل ما جئت به إلا عودي) .
وما لبث أن توفي ورقة، وفتر الوحي، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.