[مقتل عمر وخوفه الشديد من ذنوبه]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! هل بقي شيء ممكن أن يقال عن عمر؟ أستعفر الله، بل هل قلنا شيئاً عن عمر؟ ما قلنا شيئاً من الكثير الكثير الذي ينبغي أن يقال عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويكفي أن نقف مع هذه المواقف التي تعلمنا من الدروس الكثير والكثير، وهاهو العملاق، وهاهو الأسد في عرينه يتقدم رضي الله عنه وأرضاه في يوم من الأيام الحزينة التي مرت على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يتقدم عمر الفاروق ليؤم المسلمين في صلاة الفجر، ويتقدم العلج أبو لؤلؤة المجوسي عليه من الله ما يستحقه؛ ليطعن الأسد في عرينه ليطعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه! ولم تشغل عمر الطعنات عن أن يواصل المسلمون عبادتهم، وعن أن يتم المسلمون صلاتهم، فيجذب عمر بن الخطاب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه؛ ليقدمه مكانه ويصلي بالمسلمين صلاة الفجر، وينتهي المسلمون من صلاة الفجر، ويحمل الأسد إلى بيته يحمل العملاق التقي النقي الطاهر يحمل عمر إلى داره.
ويزداد ألمه، ويقول لولده عبد الله: يا عبد الله! اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها: يستأذن عمر بن الخطاب ولا تقل: يستأذن أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير.
أي دقة! وقل لها: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، هذا هو همه، وهذا هو شغله، عاش في الدنيا مع حبيبيه وصاحبه، مع حبيبه المصطفى ومع خليفته أبي بكر رضي الله عنه، ولا هم له بعد الموت إلا أن يواصل بقية ما بقي له في عالم البرزخ مع هذين الجليلين الكريمين حتى يلتقي بهما، ويبعث معهما في يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة.
يا عبد الله! اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، مع الحبيب المصطفى ومع أبي بكر رضي الله عنه، فذهب عبد الله فوجد عائشة تبكي لما وصلها خبر مقتل عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقالت عائشة التقية العالمة الورعة الذكية: والله لقد كنت أريد هذا المكان لنفسي، ولكني أوثر اليوم عمر على نفسي.
ويرجع عبد الله بأسعد خبر لأبيه عمر، فلم يكن هناك شيء يشغل عمر إلا هذا، فقالوا: عبد الله قد أقبل يا أمير المؤمنين، قال: أجلسوني، فأجلسوه، فنظر إليه قال: ما وراءك يا عبد الله؟ قال: أبشر يا أمير المؤمنين، لقد وافقت عائشة رضي الله عنها أن تدفن مع صاحبيك، فسعد عمر سعادة غامرة وقال: والله ما كان هناك شيء يشغلني غير هذا.
ولكنه التقي النقي، الدقيق في كل كلمة من كلماته، وفي كل موقف من مواقف حياته، فبعد كل هذا يقول لـ عبد الله: يا عبد الله! إذا أنا قضيت -أي: إذا أنا مت- وحملتموني وذهبتم إلى بيت عائشة فاجعلوني خارج الدار، واستأذن عليها مرة أخرى، فلربما تكون قد استحت مني في حياتي وترفض ذلك بعد مماتي، فإن أذنت فادفنوني مع صاحبي، وإن أبت فردوني إلى مقابر المسلمين.
ويدخل عليه شاب والحديث في البخاري، يقول: أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! أبشر بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقدمك في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة في سبيل الله! أتدرون ماذا قال عمر؟! أتدرون ماذا قال الفاروق الذي كان يقول لنفسه كل لحظة: ماذا تقول لربك غداً يا عمر؟! فقد خرج عثمان بن عفان ذات يوم ينظر من شرفه من شرفات بيته، فيرى رجلاً تعلوه الرمال، وتحرقه الشمس في وقت الظهيرة، وينظر ويقول: من هذا الذي خرج في هذا الوقت؟! وحينما يقترب يراه أمير المؤمنين يراه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيقول: يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذه الساعة المحرقة؟! فيقول عمر: يا عثمان! بعير من إبل الصدقة قد ند، وأخشى أن يسألني عنه ربي يوم القيامة! فيبكي عثمان ويقول: يا أمير المؤمنين! إن عبداً من عبيدك يكفيك هذا، فيقول عمر: وهل هناك أعبد مني؟! ارجع إلى ظلك يا عثمان، فيبكي عثمان ويقول قولته الخالدة: (والله لقد أتعبت كل من جاء بعدك يا عمر! لقد أتعبت كل من جاء بعدك يا عمر، والله لقد أتعبت كل من جاء بعدك يا عمر) .
بكى عمر بن الخطاب بعد هذه البشريات التي بشر بها: بقدم في الإسلام، وبصحبة رسول الله، وبعدل لم تعرف البشرية له مثيلاً على مدار التاريخ، وبشهادة في سبيل الله، وهو يصلي في محراب الصلاة، بعد كل هذا أتدرون ماذا قال عمر؟! نظر إلى هذا الشاب وقال: والله لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا عليَّ! عمر يقول هذا، يريد أن يخرج من الدنيا بغير أجر وبغير وزر: لا لي ولا علي.
فماذا نقول إن كان عمر الفاروق -والحديث في صحيح البخاري - يقول: وددت أن أخرج كفافاً لا لي ولا عليَّ! فقد حملنا بالأوزار والذنوب والسيئات، ومنا من يكلمك وكأنه قد وقع عهداً مع الله، وأخذ صكاً على الله أنه من أهل الجنة، بغير صلاة وبغير صيام وبغير زكاة! وبغير ورع وطاعة وتقى! إذا ما اقتربت منه يقول: إن لم ندخل الجنة نحن فمن يدخلها؟! هذا هو فاروق الأمة عمر رضي الله عنه وأرضاه.