أيها الأحباب! ما لبث هذا الأمر أن حدث وذهب الأنصار رضي الله عنهم إلى سقيفة بني ساعدة؛ ليختاروا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع عمر بن الخطاب الخبر فذهب إلى أبي بكر وأخذه وأخذ أبا عبيدة وأسرعوا رضي الله عنهم جميعاً إلى السقيفة إلى إخوانهم من الأنصار.
يقول عمر: وكنت قد زورت -أي: أعددت- مقالة جميلة لأتحدث بها بين يدي هؤلاء، إلا أن الصديق قد استأذن عمر بن الخطاب، وكان الصديق أول من تكلم فأثنى على الأنصار خيراً وأثنى على المهاجرين، وقال هم أحق الناس بالخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقام الحباب بن المنذر وقال: منا أمير ومنكم أمير وكاد الشيطان -والعياذ بالله- أن يلعب لعبته ولكن أنى لهذه القلوب التي رباها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن تتمزق وأن تتشتت! وبعدها قام الصحابي الجليل المبارك بشير بن سعد أبو الصحابي الجليل النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قام وقال مقالة وقعت كحبات الندى على القلوب، قام بشير بن سعد رضي الله عنه وقال: يا معشر الأنصار! والله لئن كان لنا فضل في جهاد المشركين، وسبق في هذا الدين، فإنه لا ينبغي أن نستطيل بهذا على الناس، وأن نبتغي به عرضاً، فنحن ما أردنا بذلك إلا رضا ربنا وطاعة نبينا صلى الله عليه وسلم، ووالله إن رسول الله من قريش وقومه أحق به، وايم الله لا يراني الله أنازع القوم في هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله يا معشر الأنصار ولا تخالفوا المهاجرين ولا تنازعوهم.
فالتقط الصديق هذه الكلمات النيرة الندية الرخية المؤمنة التقية، ورفع يد عمر ويد أبي عبيدة بن الجراح وقال: أيها الناس! هذا عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام، وهذا أبو عبيدة الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه أمين هذه الأمة، لقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فقال أبو عبيدة وعمر نتقدمك؟ لا والله، والله لا نقدم على هذا الأمر أحداً دونك يا أبا بكر.
إنه التجرد لله جل وعلا! إنه الصفاء والإخلاص! إن جلال هذا الموقف أبلغ من كل مقال، وأبلغ من كل كلام، بل ويصرخ عمر! ويبكي أبو عبيدة! ويقول عمر: والله لئن أقدم فيضرب عنقي في غير إثم أحب إلي أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر رضي الله عنه.
ويبكي أبو عبيدة ويقول: أنت أفضل المهاجرين، وأنت ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأنت خليفة رسول الله في الصلاة وهي أعظم ديننا، أيرضاك رسول الله لديننا ولا نرضاك لدنيانا؟! ابسط يدك يا أبا بكر ابسط يدك فبسط الصديق يده، فقام الصحابي الجليل بشير بن سعد وكان أول من بايع كما في أصح الروايات، وبايعه عمر وأبو عبيدة، وازدحم الأنصار رضي الله عنهم ليبايعوا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما أن غربت شمس هذا اليوم إلا وقد غربت بكل جزئية من جزئيات الخلاف، والتأم الصف ورئب الصدع على يد ابن الإسلام المبارك التقي النقي على يد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وخمدت نار الفتنة في مهدها، وكان يوماً عظيماً على الإسلام.
أيها الأحباب! لقد من الله على الإسلام في هذا اليوم بـ أبي بكر! حتى ظننت -وأنا أقرأ هذا المشهد من أكثر من مرجع- أن الله جل وعلا قد اختار لهذا اليوم أبا بكر بالذات، وبدأ الصديق رضي الله عنه يعلن سياسته العامة للدولة.