وقف عمر يقول:(بلغني أن الناس خافوا شدتي وهابوا غلظتي، وقالوا: لقد اشتد عمر ورسول الله بين أظهرنا، واشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟! ألا فاعلموا أيها الناس! أن هذه الشدة قد أضعفت -أي: تضاعفت- ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، أما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين إليهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه، حتى أضع خده على الأرض وأضع قدمي على خده الآخر؛ حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك لأضع خدي أنا على الأرض لأهل الكفاف وأهل العفاف.
أيها الناس! إن لكم عليَّ خصالاً أذكرها لكم، فخذوني بها، لكم عليَّ أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم وما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليَّ إن وقع في يدي أن لا يخرج إلا بحقه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، ولكم عليَّ ألا ألقيكم في التهلكة، ولكم عليَّ أن أسد ثغوركم إن شاء الله تعالى، ولكم عليَّ إن غبتم في البعوث -أي: المعارك- فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النصيحة فيما ولاني الله من أموركم) .
بالله ما أنقاه! بالله ما أتقاه! بالله ما أروعه وما أطهره! أي دستور في عالم الدساتير هذا؟! أي قانون في عالم القوانين هذا؟! (فإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم) .
أي عظمة وأي طراز من البشر كان عمر رضي الله عنه وأرضاه؟! إنه ابن الجزيرة الذي رباه الإسلام على يد محمد عليه الصلاة والسلام، نعم هذا الرجل الذي كان لا ينسى هذه النعمة أبداً، لا ينسى أنه كان بالأمس القريب راعياً للغنم، ولا ينسى أنه كان بالأمس القريب في الجاهلية يعذب من وحد الله جل وعلا، وها هو الآن يشار إليه بالبنان، ويقال له: يا أمير المؤمنين! كانت لا تغيب عن باله، وكان يقف مع نفسه ليقول لها: بخ بخ يا ابن الخطاب! كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، ثم حملك الله على رقاب الناس، فماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر؟! هذه هي البوصلة التي تحركت في اتجاهها كل ذرات كيانه وجوارحه! ماذا تقول لربك غداً يا عمر؟! هذه أنشودته الحلوة العذبة التي كانت تصرخ في أعماق كيانه ووجدانه، وتملأ عليه سمعه وبصره، وتزلزل عليه أركانه وجوارحه! ماذا تقول لربك غداً يا عمر؟! هذا هو السر يا أحباب! إذا أردت أن ترى هذا الشامخ العارف الذي يتفجر قوة وبأساً، إذا أردت أن تنظر إليه كعصفور مبلل بماء المطر في يوم شديد البرودة فما عليك إلا أن تقترب منه وتخوفه بالله جل وعلا؛ لترى إنساناً آخر وقد قامت قيامته، واصفر وجهه، ووقف وكأنه بين يدي الله جل وعلا والميزان عن يمينه، والصراط عن شماله، وكتابه منشور بين يديه، والنداء يدوي في أرجاء كيانه وجوارحه:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}[الإسراء:١٤] ، هذه هي البوصلة أيها الأحباب! وهذا هو السر الذي جعل ابن الخطاب يعزف عن كل ملذات الدنيا ونعيمها.