وبالرغم من هذا، أرى أن العظمة تتجلى في أسمى معانيها، حينما نرى هذا الزاهد الورع البكاء الخائف من الله عز وجل، نرى هاتين العينين السابحتين بالدموع خوفاً من الله عز وجل، نراهما حينما يجلس على كرسي الحكم ويأمر بالسياسية، نراهما تحدقان كعيني الصقر، وترسلان بريقاً أخّاذاً يقنع كل من يرى أنه أمام عينين ثاقبتين ليس إلى خداعهما سبيل، وهذه هي العظمة في أجل معانيها، وأسمى صورها، في خلوته بينه وبين ربه: إنه الزاهد التقي النقي الورع، أما في موطن عمله، وفي مقر إنتاجه في حقله في مصنعه في مزرعته في متجره، فهو القوي الشديد على هذا العمل، وهذه هي العظمة أيها الأحباب! فقد اجتمع أمراء بني أمية واتفقوا جميعاً على أن يرسلوا إليه تهديداً ووعيداً؛ لأنه حرمهم من الأموال والمواريث والحقوق، وأمر برد هذا كله إلى بيت المال! واجتمعوا جميعاً وقرروا أن يرسلوا إليه رسالة وعيدية على لسان عمر بن الوليد بن عبد الملك، فأرسل إليه عمر بن الوليد رسالة شديدة قال فيها: من عمر بن الوليد إلى ابن عبد العزيز، أما بعد: فلقد أزريت بمن سبقك من الخلفاء، وسرت في الناس بغير سيرتهم، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل، وعملت في قرابتك بغير الحق! فعمدت إلى أموالهم ومواريثهم وحقوقهم وأدخلتها بيت مالك عدوناً وزوراً وظلماً! فاتق الله يا ابن عبد العزيز، وإلا ليوشكن بك ألا تستقر على منبرك! وعيد واضح، وتهديد صارخ، وما كان من هذا الورع البكاء التقي النقي إلا أن يتحول إلى زلزال مدمر، وإعصار مزمجر! وعلى الفور يرد برسالة شديدة على عمر بن الوليد فيقول فيها: من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى ابن الوليد، سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: فعهدي بك يا ابن الوليد كنت جباراً شقياً، والآن ترسل إلي وتتهمني بالظلم لأنني حرمتك وأهل بيتك من مال المسلمين! الذي هو حق للضعيف والمسكين وابن السبيل! ألا إن شئت يا بن الوليد أخبرتك بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه أبوك الوليد بن عبد الملك، الذي حين كان خليفة للمسلمين استخلفك عليهم صبياً سفيهاً تحكم في دمائهم وأموالهم! فويل لك وويل لأبيك! ألا إن شئت أخبرتك يا بن الوليد بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه من ولَّى الحجاج بن يوسف يسبي المال الحرام، ويسفك الدم الحرام! ألا إن شئت أخبرتك يا ابن الوليد بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه من ولّى يزيد بن أبي مسلم على المغرب كلها يجبي المال الحرام ويسفك الدم الحرام! ألا رويدك يا ابن الوليد، فوالله لو طالت بي حياة لأقيمنك وأهلك على المحجة البيضاء.
والسلام.
إنها العظمة! ورع تقي بكاء وجل في خلوته، بينه وبين ربه، أما على كرسي الحكم والسياسة فهو القوي الشديد، صاحب العينين الثاقبتين اللتين تدوران كعيني الصقر فتلقط كل شاردة وواردة، وبالفعل أيها الأحباب! تغير كل شيء بعدما غير الولاة وأمناء بيت المال، وغير القضاة، وغير كل شيء، واستتب الأمر من جديد على أروع ما يكون، حتى إن الناس أحسوا بأنهم يعشون في عصر النبوة!