[مشاركة خالد بن الوليد في غزوة مؤتة وفتح مكة]
بعد شهرين أو ثلاثة فقط ينطلق خالد بن الوليد جندياً في صفوف كتائب التوحيد والإيمان، مع هذا الجيش الذي ذهب لمناطحة الصخور الصماء على حدود الشام في غزوة مؤتة، تلك الغزوة التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يختار لها القادة، فقال كما ورد في صحيح البخاري في كتاب المغازي من حديث عبد الله بن عمر قال: (أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة مؤتة زيد بن حارثة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن قتل زيد فـ جعفر بن أبي طالب، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن قتل جعفر فـ عبد الله بن رواحة) وانطلق الجيش الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل، ولما وصل الجيش إلى حدود الشام أذهلتهم المفاجئة الكبرى، فلقد رأوا الروم قد أعدوا لهم وجهزوا جيشاً جراراً يزيد على مائة ألف مقاتل، وهنا تردد المسلمون في القتال! كيف يدخلون هذه المعركة التي لا يمكن على الإطلاق أن نرى فيها ذرة من ذرات التكافؤ العددي والعُددي، وتردد الناس في القتال، مائة ألف إلى ثلاثة آلاف! وهنا قام الشهيد الشاعر صاحب السرير الذهبي: عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه ووقف في صفوف الجيش منادياً بأعلى صوته وهو يقول: [يا قوم! إن التي تخشون للتي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة في سبيل الله، ووالله ما نقاتل عدونا بكثرةٍ ولا عدد، وإنما نقاتل عدونا بهذا الدين الذي أكرمنا به الله عز وجل، فانطلقوا، فإنها إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة] .
وانطلق الناس للقتال، انطلق ثلاثة آلاف لقتال مائة ألف مقاتل، وتولى القيادة زيد بن حارثة وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، فانقض إليه سريعاً جعفر بن أبي طالب وقاتل حتى سقط اللواء وسقط بعده طيار الشهداء، فانقض على اللواء عبد الله بن رواحة ورفع اللواء وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، ودب الرعب والذعر في قلوب المسلمين، لا سيما بعد قتل القادة الثلاثة الذين حددهم واختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا انقض بسرعة الضوء ثابت بن أقرم رضي الله عنه على اللواء ليرفع اللواء خفاقاً عالياً، وأسرع ثابت بن أقرم ليبحث عن قائد الساعة وعن بطل الميدان عن أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، وذهب إليه ثابت وقال: [خذ اللواء يا خالد، فقال خالد -المؤدب المهذب- لا -وأبى أن يتقدم، هؤلاء الذين فيهم السابقون من المهاجرين والأنصار- وقال خالد المهذب لـ ثابت بن أقرم: أنت أولى به مني يا ثابت فأنت من السابقين الأولين، ممن شهدوا بدراً، لست أحق بهذا اللواء منك، فقال ثابت بن أقرم: خذ اللواء يا خالد والله أنت أدرى بالقتال مني، وما أخذت اللواء من على الأرض إلا لك يا أبا سليمان] .
ونادى ثابت بن أقرم في المسلمين بأعلى صوته وقال: [أيها المسلمون! هل ترضون إمرة خالد؟ قالوا: اللهم نعم] واعتلى العبقري جواده بعدما قد تحدد مصير المعركة بكل المقاييس، ودب الذعر والرعب، ومات قواد المعركة الثلاثة، وإن شئت فقل: لقد انتهت المعركة، واعتلى العبقري جواده، ودفع الراية عن يمينه كأنما يقرع بها أبواباً مغلقة قد آن لها أن تفتح بإذن الله على يد هذا البطل المغوار.
ونظر العبقري نظرةً سريعة إلى أرض الميدان بعينين كعيني الصقر، وعاد تنظيم الصفوف، وثبت خالد في هذا اليوم ثبوت الجبال الرواسي، حتى خيم الليل بظلامه، وهنا ظهرت عبقرية خالد، وظهر دهاؤه وبلاؤه وقتاله الذي قال عن نفسه: [والله لقد اندكت وتحطمت في يدي تسعة سيوف في يوم مؤتة] والحديث رواه البخاري، تسعة سيوف تحطمت في يد سيف الله، وأسد الله خالد بن الوليد رضي الله عنه.
نظر خالد بن الوليد وفي ظلام الليل وفي سرعة البرق والضوء وعدل صفوف الجيش، فجعل الميمنة مكان الميسرة، وجعل الميسرة مكان الميمنة، وجعل الساقة في المقدمة وأخر المقدمة إلى الساقة، وكلف طائفة من الجنود أن يتأخروا خلف الجيش، وعند مطلع الصباح أمرهم أن يثيروا غباراً، وأن يحدثوا صوتاً وصياحاً وجلبةً وضوضاء.
وفي الصباح الباكر بعدما بزغ الفجر، وجدت كتائب الروم وجوهاً غير الوجوه التي كانت تحاربها بالأمس، ورأت أعلاماً جديدة، ونظرت فوجدت غباراً، وسمعت صيحةً وصوتاً وجلبةً وضجيجاً، فظن الروم أن مدداً جديداً قد أقبل إلى جيوش المسلمين فدب الرعب في قلوبهم، وبدءوا في الانسحاب المذهل المروع، واستطاع خالد بذكائه وعبقريته أن يفتح ثغرة فسيحة في قلب هذا الجيش العرمرم الكبير الرهيب، وانسحب بجيشه انسحاباً آمناً دون أن يصيب الجيش بأي أذى.
وبلغت البشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يعلم السر وأخفى، فلقد وقف الحبيب في المدينة المنورة يقص على المسلمين خبر غزوة مؤتة قبل أن يبلغه الخبر، فلقد أخبره علام الغيوب جل جلاله كما ورد في صحيح البخاري من حديث أنس: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم ينعي للناس قادة غزوة مؤتة وعيناه تذرفان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان ثم قال: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله عليهم) وانظروا إلى هذه العبارة النبوية، سمى النبي انتصار خالد فتحاً، وأي نصر؟ وأي فتح؟ ولما خرج المسلمون يقولون لهم: يا فرار قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا هذا ولكنهم الكرار وليسوا فراراً) سمى النبي انتصار خالد فتحاً (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله) ذلكم هو الوسام الذي عاد خالد إلى المدينة ليعلقه النبي على صدره، والله إنه وسامٌ لا تقوم له الدنيا، ومن يومها أحبتي سمي خالد بن الوليد بسيف الله المسلول.
ولم تمض إلا أشهراً معدودات حتى تقدم النبي في جيشه الكبير الجرار لفتح مكة، وولى النبي خالد بن الوليد وجعله قائداً للميمنة، وها هو خالد يدخل إلى مكة المكرمة قائداً من قواد جيش التوحيد، بعد أن كان بالأمس القريب قائداً من قواد جيش الشرك.