[ومضات من سيرة إمام دار الهجرة مالك بن أنس]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠-٧١] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع اللقاء الخامس عشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، تلك السلسلة الكريمة التي نقدمها لأبناء الصحوة خاصة وللمسلمين عامة؛ للعظة والعبرة من ناحية، ولتقديم القدوة الصالحة الطيبة من ناحية ثانية، ولتصحيح بعض حقائق التاريخ التي شوهت من ناحية ثالثة.
أيها الأحبة! أعيروني القلوب والأسماع لنعيش اليوم مع إمام من أئمة أهل العلم فلئن كانت شمس النبوة قد أشرقت على بلاد العرب فبددت ظلام شركها، وجعلت ليلها كنهارها؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين من بعدهم، والأئمة المهديين، والعلماء العاملين، والدعاة الصادقين، كانوا بمثابة النجوم التي تعلقت بتلك الشمس، ودارت في فلكها، ونهلت من نورها ونبعها، وإن تلك النجوم لا تزال وسوف لا تزال تشرق، وتتألق، وتنشر نورها على الدنيا، وإنه لمن واجبنا أن ننشر عبير سيرتهم على الدنيا كلها، وأن نتتبع أخبارهم، وأن نقدمهم للبشرية كلها مثلاً علياً وقدوة طيبة.
إنهم ورثة الأنبياء! إنهم معين الحكمة، ونبع العلم، ومصدر النور والهدى! إن العلماء هم الشموع التي تحترق لتضيء للأمة طريق ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم.
إن العلماء هم وعي الأمة الحر، وفكرها المستنير، وقلبها النابض بالحياة، بحياتهم تحيا الأمة، وبموتهم وذهابهم تموت الأمة ويضل الناس، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عبد الله بن عمرو الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من صدور الناس، ولكنه ينتزع العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً) وفي رواية مسلم: (حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) .
ولذا أحبتي في الله! ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء أيها الأحبة: نحن اليوم على موعد مع النجم الثاقب بين العلماء، مع الإمام المهدي، والعالم المرضي، والعالم الذي جمع بين تصحيح الرواية وتحقيق الدراية، وغاص على درر المعاني واستخرجها، وأسس قواعد العلم وأحكمها، وألف فرائده وأتقنها، إنه شيخ الإسلام والمسلمين، إمام المحدثين، وأبرز المتفقهين، وإمام دار هجرة سيد المرسلين، إنه مالك بن أنس بن مالك رضوان الله عليهم أجمعين.
بعدما عشنا في اللقاء الماضي مع أول وأكبر الأئمة الأربعة سناً، مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فإننا اليوم على موعد مع إمام دار الهجرة، مع الإمام مالك رحمه الله وطيب الله ثراه.
أحبتي في الله! تعالوا معي سريعاً لنعيش مع حياة هذا النجم الثاقب بين أهل العلم، ومع هذا الإمام الكبير، فلقد ولد إمامنا سنة (٩٣) للهجرة على أصح الأقوال، في مدينة الخير وطيبة الهدى، في مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى على أي مسلم فضلاً عن العلماء والدعاة وطلبة العلم ما لمدينة المصطفى من خير وبر وفضل وبركة ورحمة، فهي حرم الله، ومستقر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهبط الوحي، ومعدن الرسالة، ومعين الهدى والسنة والنور، وبها تربة الحبيب المصطفى، وفيها قبره الشريف، وبها ذاته الكريمة بأبي هو أمي صلى الله عليه وسلم، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال أبداً، وإليها يأرز الإيمان كما تأرز الحية إلى جحرها، حرمها الحبيب المصطفى، ودعا إليها بضعف البركة، التي دعا بها إبراهيم لمكة ولأهل مكة، ففي الحديث الذي رواه مسلم والإمام مالك في الموطأ، وابن ماجة في السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإن إبراهيم قد دعا لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه) ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، ومالك في الموطأ من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم صححها وبارك لنا في صاعها ومدها) ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن إبراهيم قد حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها) ، فهي بلد الله الحرام بعد بلد الله الحرام مكة، زادهما الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، وزادهما الله أمناً واستقراراً وأماناً وسائر بلاد المسلمين.