للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مكانة معاذ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم]

ولقد كانت لـ معاذ بن جبل مكانة خاصة في قلب أستاذه ومعلمه صلى الله عليه وسلم، اسمعوا -أيها الأحبة- إلى هذا الوسام الذي وقفت أمامه مذهولاً مذعوراً مندهشاً! لقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً من يده يوماً ثم التفت إليه وقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك) ما هذا؟! والله إن الحلق ليجف، وإن القلب ليرتعد، وإن الكلمات لتتوارى خجلاً وحياءً أمام القسم العظيم الجليل الكريم الكبير (يا معاذ! والله إني لأحبك) من الذي يقول؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي تفانى أصحابه في حبه، بل وتقربوا إلى الله بحبه حباً لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، ولم لا وقد أحب محمداً صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الحجارة؟ ولكن هذا ليس بعجب ولكن العجب العجاب أن يقول إمام الهدى، ومصباح الدجى، وإمام النبيين، وخاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لشاب صغير من تلاميذه، ولابن عظيم من أبنائه، يقول: (يا معاذ! والله إني لأحبك.

فيقول معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! والله وأنا لأحبك يا رسول الله.

فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فإني أوصيك ألا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) والحديث رواه أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم وهو حديث صحيح.

فلا تنسَ أن تقول دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) بل لقد بلغت منزلة معاذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأكرم من هذا، يا سبحان الله! نعم.

فلقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يردف معاذاً خلفه على ظهر دابة واحدة، يركب النبي صلى الله عليه وسلم هو ومعاذ ركوبة واحدة، معاذ يركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكلمه، وينصحه النبي صلى الله عليه وسلم وحده، نعم.

وكان معاذ يعرف هذه الكرامة حق قدرها، ويجل هذه المنقبة ويعطيها مكانتها، فيقول معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (بينما أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال النبي: يا معاذ! فقلت: لبيك رسول الله وسعديك.

فسار النبي ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك.

فسار النبي ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك.

فقال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم.

فقال صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.

ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، وقال: يا معاذ! أتدري ما حق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: ألا يعذبهم -وفي رواية- ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً.

فقال معاذ: أفلا أبشر الناس يا رسول الله! قال: لا تبشرهم فيتكلوا) .

فحق الله علينا أن نعبده ولا نشرك به شيئاً، وألا نصرف جزئية من العبادة لأحد غير الله جل وعلا، لأن الذي يستحق جميع أنواع العبادة هو الله جل جلاله، لا توحيد إلا له، ولا إذعان إلا له، ولا انقياد ولا ذبح ولا نذر إلا له، ولا حلف إلا به، ولا طواف إلا ببيته؛ لأنه وحده هو الذي يستحق أن يعبد.

اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن الرجاء إلا فيك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢-١٦٣] فإن عبدنا الله جل وعلا حق عبادته، ولم نصرف صغيرة ولا كبيرة من العبادة إلا له جل وعلا؛ أخذ الله الحق على نفسه وليس لأحد حق على الله، بل إن الحق أخذه الله على ذاته ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن حققوا التوحيد وماتوا عليه.

واسمعوا إلى هذا الحوار الكريم بين معاذ بن جبل وأستاذه ومعلمه، هذا الحوار الذي رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي شيبة وغيرهم وهو حديث صحيح، يقول معاذ بن جبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: [يا رسول الله! أخبرني عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار] أسمعتم إلى هذه الأمنية وإلى هذا الهدف، هذا هو الهدف الذي عاشوا من أجله، وتلك هي الأمنية التي بذلوا من أجلها [يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار] فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لقد سألت عن عظيم!) ألا تريدون أن تتعلموا الطريقة أيها الأحبة؟ خذوا الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه) ما هو الطريق يا رسول الله للجنة وللبعد عن النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم، أكاد أحس بأنه يرى أُنساً في حديثه مع معاذ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! ألا أدلك على أبواب الخير؟ فقال: بلى يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وسلم: الصوم جنة -أي: وقاية- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا النبي قول الله جل وعلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٦-١٧] ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله.

قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: كُفّ عليك هذا.

فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) .

ياله من حوار كريم! يا لها من مدرسة! ويا لهم من تلاميذ! أسمعت -أيها الحبيب- إلى هذا الحوار المبارك الذي علمنا الكثير والكثير؟! ولو توقفنا عند كلماته لاحتجنا بلا مبالغة إلى عشر جمع، بل والله إلى أكثر، حوار بين أستاذ وتلميذ، بين أستاذ الإنسانية ومعلم البشرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبين تلميذ شرب من هذا النبع الصافي الكريم، ودار في فلك شمس النبوة المشرقة التي لا تغيب إلى يوم القيامة.

<<  <  ج: ص:  >  >>