وحمل الأنصار هذه الدعوة، وصاروا يسابقون بها الريح، وينطلقون من مكة إلى المدينة بهذا النور الجديد، وبهذه الحياة الجديدة، ولكن سرعان ما يبعثون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا يا رسول الله رجلاً من أصحابك يدعو الناس بكتاب الله جل وعلا، فإنه أحرى أن يتبع -والحديث حسن- فينظر النبي صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه، من يختار لهذه المهمة الصعبة العسيرة؟ من يختار لهذه الأمانة الكبيرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أن هذا الذي سيختاره سيجعل بين يديه مصير الإسلام في المدينة فالمدينة هي الأمل المرتقب بعد صدود أهل مكة، وغلاظة أهل الطائف.
إذاً: وبلا مبالغة إن هذه القضية هي أخطر قضية للإسلام حينذاك.
من يختار صلى الله عليه وسلم؟! ويختار الحبيب أول الدعاة وسيد التقاة مصعب الخير رضي الله عنه وأرضاه، فهو الذي تمرس وصبر على البلاء.
لقد هاجر رضي الله عنه إلى الحبشة مرتين وتحمل الأذى، ونجح في الاختبار نجاحاً بقوة واقتدار، إذاً: فلتذهب يا مصعب الخير إلى المدينة المنورة لتعلم الناس الإسلام، ولتفقه الناس في دين الله جل وعلا، ولتقرأ القرآن عليهم غضاً طرياً -اسمعوا- ولتقوم بدور رسول الله في مكة في المدينة المنورة.
يا سبحان الله! أي شرف هذا، وأي مكانة هذه التي يتبوأها مصعب؟ يقوم بدور رسول الله في مكة في المدينة المنورة؟! نعم، فهو الداعية الذي كان مثلاً وقدوة ونستحق بجدارة أن نرفع رءوسنا لتعانق السماء ولنقول: إنه داعية رباه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم! أيها الأحبة! ويذهب مصعب وهو يعي رسالته، ويقدر أمانته، وينطلق إلى المدينة المنورة، وينزل ضيفاً على أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه.
لماذا؟ لأن مصعباً لا يملك مالاً ولا أهلاً ولا بيتاً ولا دابة ولا سلاحاً، بل إن الدعوة وهي ماله، وهي بيته، وهي دابته، وهي سلاحه، ولا يملك شيئاً إلا أن يدعو، وكذلك أقول لإخواني من الدعاة: نحن لا نملك إلا الدعوة، ولا نملك إلا القلوب، فنتعلم من هذه الدروس، ولذا فإننا نركز على هذا لا لمجرد التسلية والاستمتاع، وإنما ليربى الجيل على أخبار وسير هؤلاء الأطهار.