[أصول مذهب الإمام أحمد رحمه الله]
أيها الأحبة! إن الإمام أحمد فقيه دقيق عميق النظر، كثير الحيطة، شديد الحذر، أعظم ما يخشاه ويخاف منه أن يقرر حكماً يخالف به حكماً لله جل وعلا، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يعي جيداً قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:١] ، وقد لخص تلميذه النجيب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، القاعدة التي بنى عليها الإمام أحمد فقهه في هذه الكلمات المعدودات فقال: (توقيف في العبادات، وعفو في المعاملات) وهذه هي قاعدة الفقه الحنبلي.
(توقيف في العبادات) فلا يصح أبداً أن يعبد إنسان ربه جل وعلا برأي أو بهوى، أو بقول أحد من الناس، وإنما بقول الله جل وعلا، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى التوقيف.
أحبتي في الله! (توقيف في العبادات) ، أي: على الله ورسوله.
(وعفو في المعاملات) : لأن الأصل في المعاملات الإباحة والحل ما لم يأت دليل بالتحريم، أما الأصل في العبادات فالتوقيف، فلا يجوز لأحد أن يعبد الله إلا بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد لخص العلامة ابن القيم في كتابه القيم: (إعلام الموقعين) القواعد والأصول الخمسة التي بنى عليها الإمام أحمد فقهه فقال: الأول: النصوص: أول قاعدة وأصل بنى عليها الإمام فقهه: النصوص، فإذا وجد الإمام نصاً من الكتاب والسنة لا يلتفت إلى ما خالفه وإلى من خالفه كائناً من كان.
الأصل الثاني أو القاعدة الثانية من قواعد فقه الإمام أحمد: أقوال الصحابة رضي الله عنهم، وكان الإمام لا يقدم على أقوال الصحابة رأياً ولا قياساً.
الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة في مسألة من المسائل اختار الإمام أحمد أقرب هذه الأقوال إلى الكتاب والسنة.
الأصل الرابع: أن الإمام كان يأخذ بالأثر المرسل وبالحديث الضعيف إذا لم يكن عنده في المسألة دليل صحيح من الكتاب والسنة، ولا من أقوال الصحابة رضي الله عنهم.
الأصل الخامس: أنه كان يحيد إلى القياس أحياناً مع كراهته الشديدة لذلك، إذا لم يجد عنده نص من الكتاب والسنة ولا يجد عنده أثرا ًمرسلاً ولا حديثاً ضعيفاً، وكان يقول قولته: (الحديث الضعيف أفضل عندي من القياس) .
وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المقولة فقال: والحديث الضعيف عند الإمام أحمد هو قسيم الصحيح، وهو قسم من أقسام الحسن.
أيها الأحبة! هذه هي الأصول الخمسة التي بنى عليها الإمام مذهبه الفقهي عرضتها في عجالة سريعة وسامحوني على السرعة والتقصير.
وهكذا أحبتي في الله! فلم يكن الإمام أحمد فقيه المحدثين، ومحدث المتفقهين فحسب، بل كان إمام أهل السنة في العقيدة بكل أصولها وفروعها، فلئن كان الإمام شديد التمسك بالفقه والسنة وأحكامها في الأصلين والنبعين الصافيين الكريمين ألا وهما الكتاب والسنة فلقد كان الإمام أحمد أشد تسمكاً وأشد اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسلف الأمة الصالح في أخطر مسائل الاعتقاد وصغيرها كمسائل الصفات، كقوله في معنى يد الله، ووجه الله، وقدرة الله، والقضاء والقدر وكقوله في الإيمان، وكقوله في الإسلام، وكقوله في معنى الكرامة، ومعنى المعجزة، وكقوله في رؤية الله جل وعلا في الآخرة.
إلى آخر هذه المسائل.
لم يحد الإمام عن قول السلف في هذه المسائل قيد شعرة؛ لأن الإمام كان شديد الاتباع، شديد البغض لكل رائحة ابتداع، فكان سيفاً مصلتاً على أهل الأهواء والبدع، أثبت كل ما أثبته الله ورسوله، ونفى كل ما نفاه الله ورسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ولا يتسع الوقت لسرد بعض أقواله الجميلة الدقيقة في هذه المسائل الخطيرة التي زلت فيها أقدام، وضلت فيها أفهام، وكفرت فيها أقلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.