للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[طلبه للعلم ونبوغه فيه]

أيها الأحبة: إن المادة كثيرة كثيرة، وأريد أن ألخص حياة الإمام تلخيصاً دقيقاً.

أقول: نبغ الإمام مبكراً فاتجه بعد ذلك إلى دراسة فقه الشريعة والحديث على يد شيخه الأول: هزيم بن بشير رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ولما بلغ الإمام الثامنة عشرة من عمره تفرغ لدراسة علم الحديث الشريف على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فنظر الإمام فلم ير شيخاً من شيوخ بغداد إلا وقد أخذ كل ما عنده من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففكر الإمام في الرحلة لطلب الحديث، ورحل إمامنا إلى الكوفة، والبصرة، ومكة، والمدينة، وفارس، وخراسان، واليمن، والمغرب، والشام، حتى قال الحافظ ابن كثير في بدايته ونهايته المتقنة: لقد طاف أحمد البلاد والآفاق بحثاً عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا أحبتي في الله! وهكذا يا طلبة العلم لم يضيع الإمام لحظة واحدة في شبابه، ولا حتى في حياته إلا وقد حرص فيها على أن يسمع حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يصحح رواية، أو أن يوصل سنداً من المسانيد، وهكذا رحل في سبيل هذه الغاية الشريفة العظيمة الكريمة إلى أدنى الدنيا وأقصاها، إن لم يجد ما يركبه فعلى قدميه ماشياً رضي الله عنه وأرضاه، حتى تشققت قدماه، وضعف بدنه ضعفاً شديداً شديداً، ولكن سعادته بسماع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت تمسح آلامه، وتذهب جراحه، وتسكب في قلبه الطمأنينة واليقين والصبر والثبات حتى قال ولده الأكبر صالح بن أحمد رحمه الله ورحم أباه رأى رجل مع أبي المحبرة ذات يوم فعجب، وقال هذا الرجل للإمام أحمد: يا إمام! أنت إمام المسلمين، وبلغت ما قد بلغت، ولا زلت أرى معك المحبرة؟ فقال أحمد قولته الخالدة: نعم.

مع المحبرة إلى المقبرة.

فلا تتعال يا طالب العلم، ولا تظنن أنك قد بلغت ساحل العلم، فإن ساحل العلم لا يصل إليه أحد، كيف وقد أمر الله حبيبه المصطفى الأمي الذي علم المتعلمين بقوله جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤] ولا يزال هذا الأمر قائماً ودائماً حتى لقي الحبيب ربه جل وعلا.

نعم.

مع المحبرة إلى المقبرة، ومن ثم بهذا الصبر وهذه المثابرة وهذا الصدق والجهد والإخلاص واليقين صار الإمام أحمد محدث المتفقهين وفقيه المحدثين.

<<  <  ج: ص:  >  >>