وكان الصديق رضي الله عنه بعدما انتهت معارك فارس قد جيش الجيوش إلى بلاد الشام للقضاء على أعظم امبراطورية في الغرب، إلا وهي امبراطورية الروم، وقد اختار الصديق لهذه الجيوش قادةً عظاماً، اختار أبا عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وجعل الصديق القيادة العامة لجيوش الشام في يد أبي عبيدة رضي الله عنه، ولما وصلت الجيوش إلى بلاد الشام، وسمع هرقل امبراطور الروم بهذه الجيوش قال قولته المشهورة: والله لأشفين أبا بكر ألا يورد خيله إلى أرضنا مرة أخرى، وجيش هذا الرجل جيشاً لا مثيل له، جيش جيشاً يزيد على مائتين وأربعين ألف مقاتل، ولما رأى قادة الجيوش المسلمة هذا الجمع الرهيب، أرسلوا إلى خليفة رسول الله إلى أبي بكر يخبروه بالصورة الجديدة والموقف الجديد، أتدرون ماذا قال الصديق رضي الله عنه؟ قال: والله لأشفين وساوس الروم بـ خالد بن الوليد، وأصدر الصديق الأوامر إلى قائده المظفر أن ينتقل من العراق من أقصى المشرق فوراً إلى بلاد الشام إلى أقصى المغرب فوراً، وفي أربعة أيام يا عباد الله من طريقٍ وعرٍ مذهل! استطاع خالد بن الوليد أن يكون على جبهة الشام، وأرسل الصديق في ذلك رسالةً إلى قائده البطل إلى خالد بن الوليد، وكانت تحتوي على كلماتٍ عذبة رقيقة، ومما كان في هذه الرسالة أن الصديق قال له: هنيئاً لك أبا سليمان النية والحظوة، لا يدخلنك عجبٌ فتخسر وتُخذل، وإياك أن تمن بعملٍ، فإن الله هو صاحب المن وهو ولي الجزاء، وأمره أن ينطلق مسرعاً إلى إخوانه من القادة في بلاد الشام، وأن يتولي خالد القيادة العامة على أبي عبيدة وإخوانه من القادة، وأرسل الصديق رسالة مماثلةً إلى قائد الجيوش في الشام إلى أبي عبيدة يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك أما بعد: فلقد أمرت خالد قيادة الجيوش في بلاد الشام، فلا تخالفه يا أبا عبيدة، واسمع له وأطع، وإني لم أبعثه عليك إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وإن كنت عندي أحب إلي منه، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام.
ولما وصلت الرسالة إلى خالد وكلف فيها من خليفة رسول بالقيادة العامة انظروا إلى الأدب والإخلاص، أرسل خالد بن الوليد رسالة إلى الفور إلى قائد الجيوش في الشام، إلى أخيه أمين هذه الأمة: أبي عبيدة بن الجراح وقال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك أما بعد: فلقد جاءني كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام والقيام على جندها والتولي لأمرها، ووالله ما طلبت ذلك يا أبا عبيدة وما أردته، فأنت على حالك التي كنت عليها قبل ذلك لا نخالفك يا أبا عبيدة ونسمع لك ونطيع، فأنت سيد المسلمين، ولا يمكن أن ننسى فضلك ولا نستغني عن أمرك.
بالله ما أورعه! بالله ما أتقاه! بالله ما أنقاه! بالله ما أخلصه! هذه هي القلوب التي تجردت لله، التي لا تبحث عن الزعامة، ولا تريد الصدارة، ولا تريد القيادة، ولو كان على حساب دين الله جل وعلا، لا فرق عند خالد الذي رباه سيد النبيين محمد أن يكون جندياً مطيعاً بعد أن كان قائداً مطاعاً، أو أن يكون قائداً مطاعاً بعد أن كان جندياً مطيعاً، طالما أن راية التوحيد ستظل خفاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء في عنان السماء.
ووصل خالد بن الوليد إلى إخوانه، والتقت الجيوش المسلمة، وقبل بدء القتال وقف سيف الله يخطب هذه الخطبة العصماء، وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه لإخوانه من القادة والجند: إن هذا يومٌ من أيام الله، لا ينبغي فيه البغي ولا الفخر، وإن هذا اليوم له ما بعده، فإن رددناهم اليوم لا نزال نردهم بعد اليوم، وإن هزمونا اليوم لن نفلح بعدها أبداً، -ثم قال-: فتعالوا بنا نتعاور -أي: نتبادل القيادة- فليكن أحدنا اليوم قائداً، وليكن بعد اليوم أحدنا قائداً -وهكذا ثم نظر إليهم خالد - وقال: وأطلب منكم أن تتركوا لي الإمارة في اليوم الأول، وتنازل القادة بمنتهى الحب والرضا للقيادة لأخيهم سيف الله المسلول وفارس الإسلام والمسلمين لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعاد البطل ينظم صفوف الجيش بطريقته الخالدية التي لا نظير لها في عالم الميادين، وفي عالم القيادة وفن الحروب، ونظم البطل صفوف جيشه، ورسم المسلمون في هذه الموقعة موقعة اليرموك صوراً من البطولة والفداء تبهر القلوب وتأخذ الألباب، فهذا رجلٌ جنديٌ في الصفوف يقترب من أبي عبيدة بن الجراح وينادي عليه في هذه الضجة وفي هذا الضجيج تحت رنين السيوف، ووقع الرماح وصهيل الخيول: يا أبا عبيدة! ويلتفت إليه أبو عبيدة: ماذا تريد؟ فيقول له هذا المسلم النقي: لقد عزمت على الشهادة فهل لك من حاجة أبلغها لرسول الله حين ألقاه، فقال أبو عبيدة: نعم، إذا لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: يا رسول الله! لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً -في وسط هذه المعمعة- لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً.
وينادي عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه ويقول لنفسه: والله لطالما قاتلت رسول الله قبل أن يشرح الله صدري للإسلام، وهأنا اليوم أفر من الميدان أمام أعداء الله، فينادي بأعلى صوته: يا أصحاب محمد! من يبايع اليوم على الموت؟ ويبايعه كوكبة من الأبرار الأطهار الأخيار، ويدخلون في صفوف المعركة لا يبحثون عن النصر إنما يبحثون عن الشهادة، إنهم أبناء محمد بن عبد الله، إنهم تلاميذ المصطفى صلى الله عليه وسلم الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وشرف الجهاد في سبيل الله، وبهذه القلوب، وبهؤلاء الرجال أعز الله دينه، وأعلى الله راية توحيده، وأعز الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تكون العزة ولا النصرة إلا بهذه القلوب، وإلا على هذه الأيدي الطاهرة، وإلا بهؤلاء الرجال الأطهار الأبرار الأخيار.
وانتهت المعركة أيها الأحباب: وفي وسط هذه الانتصارات المذهلة، وإذ بـ الصديق رضي الله عنه يودع الدنيا آمناً راضياً مطمئناً ليلقى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بعدما أدى الأمانة التي كلف بها، وهنا يتولى عمر الفاروق رضي الله عنه لنرى مرة أخرى، وانتصاراً أعظم من جميع الانتصارات، مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.