انتبهوا أيها الإخوة فإن هذه رءوس أقلام، ولا يسعني أبداً أن أقف مع سيرة الإمام مع علمه وفقهه وورعه وزهده، ومع خوفه، ومراقبته لله، ومع إخلاصه وصدق توكله، ومع صبره وثباته على المحن والشدائد، ومع حسن تواضعه وكريم إشفاقه.
لا يسعني أدباً أن أتحدث عن كل هذا في هذه الدقائق المعدودات، إلا أنني أقول: صار أحمد فقيهاً أو محدث المتفقهين وفقيه المحدثين، وإن أعظم دليل عملي على صدق قولي هذا هو مسنده العظيم، ذلك المورد الثجاج لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جمع فيه الإمام جمعاً عظيماً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيأتي الإمام باسم الصحابي أو بمسند الصحابي فيقول: مسند أنس بن مالك، أو مسند أبي هريرة، أو مسند عبد الله بن عمر ويأتي بجميع الأحاديث التي رواها هذا الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون مراعاة لموضوعات هذه الأحاديث، ثم بعد ذلك بأقوال هذا الصحابي وفتاويه إن كانت له فتاوى، وهكذا يختلف ترتيب المسند عن ترتيب كتب السنن، فإن المسند مرتب على الصحابة، وكتب السنن مرتبة على أبواب الفقه كما يعلم طلبة الحديث.
أحبتي في الله! وهكذا أولى الإمام أحمد المسند عناية عجيبة فائقة، ولكن يأبى الله إلا أن يكون الكمال لكتابه وحده، ولقد صدق الله جل وعلا إذ يقول:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}[النساء:٨٢] .
أقول: مع كل هذه العناية الفائقة فلقد وقع في مسند الإمام أحمد الضعيف والموضوع، كأحاديثه في فضائل مرو وعسقلان، ففيها الضعيف والموضوع، ولكن الصحيح والله أعلم أن هذه الأحاديث الموضوعة -وأقول هذا للأمانة العلمية ووالله ليست تعصباً- التي ثبتت في مسند أحمد، وثبت الكذب في بعض رواتها ليست من رواية الإمام أحمد، وإنما هي من الزيادات التي زيدت على المسند بعد ذلك، ولقد حقق هذه المسألة تحقيقاً دقيقاً عجيباً خاتمة المحدثين والحفاظ، الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في كتابه القيم المذهل المسمى بـ:(القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد) ، وقد رد الحافظ ابن حجر في هذا الكتاب على شيخه الحافظ العراقي رحمه الله تعالى، وأثبت الحافظ ابن حجر أن الأحاديث الموضوعة التي ثبتت في مسند الإمام أحمد إنما هي من الزيادات التي زيدت على مسند الإمام، وليست من رواية أحمد ولا ولده عبد الله.
وهكذا أيها الأحبة: أجل الإمام أحمد وأهله إجلالاً منقطع النظير، حتى كان يذكر الإمام أحمد فيقال: رضي الله عنه وأرضاه، ومن عظم أصحاب الحديث عظم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حقّر أصحاب الحديث سقط من عين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما سئل الإمام عن حديث المصطفى الذي خرجه هو في مسنده وهو مخرج في الصحيحين أيضاً من حديث معاوية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:(لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) لما سئل الإمام أحمد في معنى هذا الحديث قال: إن لم تكن هذه الطائفة هم أهل الحديث فما أدري من هم؟! ولم يكن الإمام أحمد محدث المتفقهين فحسب، وإنما كان أيضاً فقيه المحدثين، وإن كان الإمام أحمد لم يترك لنا كتاباً في الفقه بعينه فلقد أجاب الإمام أحمد عن أكثر من ستين ألفاً من المسائل الفقهية بقوله: قال الله تعالى، قال رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد أن يرى العجب العجاب في ذلك فليراجع كتاب:(المغني) للعلامة ابن قدامة ليرى من ذلك العجب العجاب والمسائل الكثيرة الكثيرة.