[صبر مصعب رضي الله عنه على الشدة والبلاء]
خلع مصعب رداء الجاهلية كله على عتبة دار الأرقم بن أبي الأرقم، واختار طريق الإيمان بكل محنه وآلامه، فهو الذي رأى بعينيه المعذبين من المؤمنين والموحدين يحرقون بالنار، ويمنعون من الطعام والشراب، ويلقون أشد الأذى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٢-٣] .
ليس الإيمان كلمة تقال باللسان، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء.
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، بل الإيمان ابتلاء، واختبار، فطريق محفوف بالأشواك وممهد بالابتلاءات والمحن، وليس طريقاً ممهداً بالزهور والورود والرياحين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤] .
اختار مصعب طريق الإيمان بكل محنه وآلامه، ولكن كان ولابد أن يواجه مصعب الخير المحنة برجولة ليثقل إيمانه وليزداد يقينه، وسبحان الله! ستعجبون إذا علمتم أن الذي تولى المحنة، وأن الذي تولى تعذيب مصعب هي أمه خناس بنت مالك! التي كانت تتمتع بقوة في شخصيتها إلى حد ترهب فيه كل الرهبة.
هذه المرأة القوية المتعجرفة التي كبتت كل مشاعر الأمومة في قلبها، واستعلت على كل ذرة عطف وحنان لابنها وحبيبها، وقامت بنفسها لتحكم قيوده وأغلاله، بعدما أظهر إسلامه، وحبسته في مكان قصي من دارها، ومنعت عنه المال والمتاع.
لماذا؟ ليرجع إلى دين الجاهلية وليترك دين الحق والتوحيد، ولكن أنى للقلوب التي رأت النور أن تهوى الضلال؟! وهكذا اطمأن مصعب الخير ورضي بهذا العذاب وهذا البلاء! عجب! أعطر فتيان مكة! وأنعم فتيان مكة يترك النعيم! ويترك الجاه والثراء! ويترك المتاع والأموال! يترك الدنيا كلها من أجل الله جل وعلا ورسوله والدار الآخرة! يا له من درس لمن تركوا ميادين دعوتهم، وراحوا يلهثون وراء الكراسي الزائلة، والمناصب الفانية، وأفتوا بغير ما يرضي الله جل وعلا! يا له من درس؛ فإن الكراسي إلى زوال، وإن المناصب إلى فناء، وإن الدنيا بأسرها حطام زائل.
يتنازل مصعب عن كل هذا ليلبس هذا الفتى المنعم أخشن الثياب، وليجوع يوماً ويشبع يوماً بعد أن كان في الأمس القريب إن مر في طريق في مكة قالوا: لقد مر من هذا الطريق مصعب بن عمير.
أعطر الفتيان، وأنضر الشباب، وأبهى الشباب حلة، يلبس أخشن الثياب، ويجوع يوماً ويشبع يوماً؟! إنها التضحية! إنها قصة فداء! إنه شرف لجميع بني الإنسان، إنه مصعب الخير رضي الله عنه وأرضاه.
إنه يعلم يقيناً أن الدنيا بزخارفها وسلطانها إلى زوال وفناء، فمهما طالت دنياك -أيها الحبيب- فهي قصيرة، ومهما عظمت دنياك فهي حقيره؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر أيا عبد كم يراك الله عاصيا حريصاً على الدنيا وللموت ناسياً أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسياً ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقياً ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى ذنوب والمعاصي كما هيا يلبس أخشن الثياب، ويأكل الجلد مع أستاذه ومعلمه صلى الله عليه وسلم وورق الشجر، ولكن روحه التي سمت بالعقيدة، ووجهه الذي أشرق بالإيمان قد جعل منه إنساناً يملأ الأعين جلالاً، ويملأ القلوب محبة وتقديراً، ويملأ النفوس هيبة ووقاراً.
أيها الأحبة! في وسط هذه المحن يبزغ نور جديد يبدد الظلام، ويجدد الأمل في صحراء مكة المفقرة، نفر من الأنصار يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، تلك البيعة الكريمة المباركة التي حطمت جدران سوداء، حجبت عن الدنيا أنواراً للآخرة.
إنها تلك البيعة الكريمة المباركة التي راحت تصرخ في هذا الإنسان الذي التحف بقشور الوثنية المظلمة لتنادي في أعماقه وتقول له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:١-٤] ، فاعبده وحده، واسجد له وحده، وسبحه وحده، وانظر إليه وحده، واحلف به وحده.
تلك البيعة الكريمة المباركة التي راحت تصرخ في أعماق هذا الإنسان الذي تمرغ يتمرغ في أوحال الرذيلة والمعصية، وتقول له: لا تدس أنفاس حياتك برائحة البغايا المنتنة! تلك البيعة الكريمة التي راحت لتلاحق ذلك الرجل الذي يمضي نحو المقابر كالغضب، وتقول له: ويحك وتهزه من كتفيه بعنف وتقول له: قف، إلى أين أنت ذاهب؟! ما هذا الذي تحمله على ظهرك، إنه ما زال حياً! إنها ابنتك نبض حياتك، ثمرة فؤادك، شريانك ودمك، ما الذي جنته لتهيل عليها التراب وهي حية! وهي تبلل قبرها بدموع تناشدك ذرة من رحمة، وبقية من حنان! إنها البيعة المباركة التي أشرقت بشمس جديدة على الدنيا!