أيها الأحبة! قد تعجبون إذا علمتم أن مالكاً رحمه الله تعالى لم ينل هذه المكانة العالية عند أهل العلم فحسب، وإنما بلغ مالك مكانة عالية عند الخلفاء والأمراء، وليس بالضرورة أن يتهم كل عالم يدخل على الخلفاء والأمراء، ولذلك اتهم مالك بهذا، فلما قيل له: إنك تدخل على السلاطين، فقال مالك رحمه الله تعالى: ومن يتكلم بالحق؟ أي: من يقول قولة الحق إن لم أقلها أنا.
أيها الأحبة! ليس بالضرورة أن نطلق ألسنتنا بالتجريح والسلق الشديد لكل من يدخل على ذوي السلطان، فإن لهؤلاء العلماء الأعلام من وجهات النظر ومن البعد الدقيق العميق ما قد يخفى على كثير من أبناء الأمة، ولذا فينبغي أن نحفظ ألسنتنا، وأن لا نطلق لها العنان لتأكل لحوم علمائنا ودعاتنا، فإن لحوم العلماء مسمومة.
وهكذا أيها الأحبة! نال مالك المكانة السامقة العالية عند العلماء، بل والخلفاء والأمراء، فقد كانوا يستضيئون برأيه، ويأخذون بمشورته، بل تعجبون أن خليفة المسلمين أبا جعفر المنصور ذهب إلى مالك يوماً من الأيام وقال: يا مالك! إني أعزم على أن آمر بموطئك أن ينسخ، وأن أرسل بنسخة لكل مصر من أمصار المسلمين، وأن ألزمهم به، وأن لا يأخذوا إلا به ويدعوا غيره.
إلى هذا الحد، يريد أن يلزم الناس بموطأ الإمام مالك.
أتدرون ماذا قال هذا الإمام الكبير المتواضع؟ قال: يا أمير المؤمنين! إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد انتشروا في الأمصار، وقد سمع الناس منهم أحاديث، وروى الناس عنهم روايات، وقد أخذ كل ناس بما سبق إليهم وعملوا به، ورد الناس عما قد اعتقدوه أمر شديد، ولذا فأرى أن تترك الناس على ما هم عليه، فقال له أبو جعفر المنصور: والله -أو لعمري- لو طاوعتني لأمرت الناس بذلك.
هذا هو الإمام مالك!! بل وقيل له ذلك من هارون الرشيد، وقيل له ذلك من المهدي كما روى ذلك الإمام الطبري.