[رحلة الشافعي إلى الإمام مالك في المدينة]
يقول الشافعي نفسه: ثم انتقلت بعد ذلك من مكة إلى قبيلة هذيل لأتعلم منها اللغة العربية، فلقد كانت قبيلة هذيل أفصح العرب بياناً ولغة وكلاماً، يقول: فرجعت بعد ذلك إلى مكة لأردد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فلقيني رجل من الزبيريين من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله! والله إنه ليعز عليَّ ألا يكون مع هذه البلاغة والفصاحة والذكاء فقه.
يقول الشافعي: فقلت له: فمن من العلماء نقصده لطلب الفقه؟ يقول الشافعي: فقال لي هذا الرجل: تقصد سيد المسلمين مالك بن أنس في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: فوقعت هذه القولة في قلبي -انتبهوا يا طلبة العلم- يقول الشافعي: فذهبت إلى رجل من أهل مكة علمت أنه يحوي عنده موطأ الإمام مالك، يقول: فذهبت إليه واستعرت منه الموطأ وعكفت عليه، فحفظت الموطأ عن ظهر قلب في تسع ليالٍ، حفظ القرآن وعمره سبع سنين، وحفظ موطأ الإمام مالك في تسع ليالٍ لا في تسع سنين، يقول: فلما انتهيت من حفظ الموطأ أخذت رسالة من والي مكة ومن شيخي وذهبت إلى الإمام مالك، وقص الشافعي رحلة طويلة جميلة عذبة لا يتسع الوقت لسردها.
وقال بإيجاز شديد: وصلت إلى الإمام مالك فلما كلمته، وأعجب الإمام مالك بذكائه وفصاحته ولغته وبيانه وإعرابه، قال مالك لهذا: يا غلام! ما اسمك؟ قال: محمد.
فقال: مالك: يا محمد! إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية، فإني أرى أنه سيكون لك شأن كبير إن شاء الله عز وجل.
ثم قال مالك للشافعي: يا فتى إذا كان الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك الموطأ.
فقال الشافعي: أنا قارئ، أنا أقرأ إن شاء الله تعالى.
يقول: فلما كان الغد أخذت الموطأ في يدي وجلست بين يدي شيخي مالك، وأخذت أقرأ عليه الموطأ من حفظي، وكلما نظرت إلى مالك وتهيبت مالكاً -وكان مالك قد أعجب ببلاغتي وقراءتي وحسن إعرابي- فكلما أردت أن أنهي القراءة في الموطأ نظر إليَّ مالك وقال: زد يا فتى زد يا فتى زد يا فتى، حتى أنهيت الموطأ كله في أيامٍ يسيرة.
ثم بعد ذلك، لا تظنوا أن الشافعي أخذ عن مالك الموطأ فقط، وإنما أخذ عنه كل ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنني ذكرت آنفاً في اللقاء الماضي -ونحن نتحدث عن مالك - أن الحديث الذي كان يحفظه مالك ليس هو الموطأ فحسب، فأخذ الشافعي الحديث عن الإمام مالك، وأخذ عنه الفقه وفتاوى الصحابة وعمل أهل المدينة رضوان الله عليهم جميعاً.
ولبث الإمام الشافعي في المدينة المنورة ملازماً لشيخه ملازمة الظل لصاحبه حتى توفى الله مالكاً رضي الله عنه، ولم يكتفِ الشافعي بعلم مالك، وإنما رحل إلى شيوخ المدينة -وكانت المدينة حينئذٍ تزخر بالأئمة الأعلام والشيوخ الكبار- وأخذ العلم عنهم جميعاً.