للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبحث الثالث:

نظريَّة الضرورة وبعض تطبيقاتها السياسية

تعتبر الضرورة - فيما أظن - أقوى دليل على الشرعية الاستثنائية لتعدد الدول الإسلامية في العصر الحاضر، لذا رأيت أن أتناولها بمبحث مستقل لبيان فكرة الضرورة في الشرع ثم بيان بعض من تطبيقاتها وخاصَّة في مجال السياسة، فالحلال بيِّن والحرام بيِّن ولكن قد تطرأ في زمن ما أو مكان ما ظروفٌ تجعل من العسير أداء الواجب أو من المتعذر البعد عن الحرام، فيأتي دور نظرية الضرورة لترفع الحرج والعسر والمشقة قال - عز وجل -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج/٧٨. وقال - عز وجل -: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الأنعام/١١٩.

فالله - عز وجل - وهو الذي له أن يشرع ما يشاء دون اعتبار لمصالح العباد - لم يشرع إلا ما فيه مصلحة للعباد أو دفع ضر عنهم، وقد تبين هذا من استقراء الأحكام الشرعية (١)، فعندما يؤدي تطبيق حكم ما إلى ضرر محقق أو تفوت به مصلحة مؤكدة أو راجحة، لا يُلزِمنا الشارعُ عندها بالتطبيق الحرفي والجامد للنص، بل يشرع لنا مراعاة تلك المصلحة أو البعد عن ذلك الضرر بضوابط معينة، وهو بهذا يؤكد روح التشريع واتجاهه العام، وليس في هذا خروج على النص بدون دليل لأنَّ العمل بالضرورة عمل بالنصوص، ولأنَّ «إقامة الضرورة معتبرة، وما يطرأ على ذلك من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتلبة، كما اغتفرت مفاسد أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وأشباه ذلك في جنب الضرورة لإحياء النفس المضطرة» (٢)، ولأن «الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً بالإجماع» (٣) قال - عز وجل -: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الأعراف/١٥٧.


(١) نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي: ص ١٥.
(٢) الموافقات للشاطبي: ١/ ١٨٢.
(٣) الموافقات للشاطبي: ٢/ ١٢١ - ١٢٣، ٣/ ٢٠. أصول السرخسي: ٢/ ٢٠٨.

<<  <   >  >>