إنَّ الحديث عن هذه المسألة، وإن كان مُصنَّفاً في مقدمات هذه الأطروحة، إلا أنه يَزجُّنا بقوة في الحديث عن أدقِّ المعاني لكلمة الخلافة، وهذا يُدخلنا في جوهر الأطروحة، وهو من الأهمية بمكان، بحيث إنَّ تحريره ينعكس على مُجمَل الأطروحة، لهذا كان لا بد من التفصيل فيه.
وخير مقدمة لهذه المسألة، ما قاله المودودي عن نظرية القرآن في السياسة حيث قال: «إنَّ نظريَّة القرآن في السياسة مبنيَّة على فكرته الأساسية عن الكون؛ التي ينبغي وضعها في الاعتبار لنفهم هذه النظريَّة فهماً سليماً، هذه الفكرة ترتكز على ثلاثة محاور:
١ - أنَّ الله - عز وجل - هو خالق هذا الكون كلِّه، وخالق الإنسان نفسه.
٢ - أنَّ الله - عز وجل - هو مالك هذا الكون والخلق.
٣ - أنَّ الحاكميَّة في هذا الكون ليست لأحد غير الله قال - عز وجل -: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} الإسراء/١١١. وقال - عز وجل - أيضاً:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ِ} الأنعام/٥٧. وقال - عز وجل -: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} الكهف/٢٦. وقال - عز وجل -: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} آل عمران/١٥٤. وبناء على ذلك فإنَّ الحاكم الحقيقي للإنسان هو نفسه حاكم الكون، مع فارق وحيد هو أنَّ حاكميَّة الله في نظام الكون قائمة بقوته تعالى التي لا تحتاج إلى اعتراف من أحد، وحتى الإنسان نفسه - في الجزء اللاإرادي من حياته - يطيع حكم الله كما يطيعه الكون كله، من الذرَّة إلى النِّظام الفلكيِّ ومجموعاته، أما الجزء الإرادي من حياة الإنسان فالله لا يُنْفِذُ فيه حكمَه بالقوة والجبر وإنَّما يدعو النَّاس عن طريق الكتب للتَّسليم بحاكميَّته فيه.
لذا فإنَّ حق الحكم والقضاء ليس لأحد غير الله، وله وحده حقُّ إصدار الحكم قال - عز وجل -: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الأعراف/٥٤. وقال - عز وجل -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} المائدة/٣٨. ولابد من اتِّباع قانونه وحده، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المبلِّغ عن الله، وهو الشَّارح والمفسِّر بقوله وفعله، فهو مُمَثِّل حاكميَّة الله القانونيَّة في حياة البشر، ومن ثَمَّ فإنَّ الشَّكل الصَّحيح لحكومة البشر حسب المبادئ السياسية في القرآن هو: