الأحوال، إذا تركت وشأنها، شأن الشعوب والمجتمعات التي أكبر اعتمادها في الكسب والمعاش على التجارة، ومسير القوافل، وتنظيم الأسواق، وتوجّه الرواد من كلّ صوب إلى بلدها، والتقائهم التقاء يفيدها إجلالا دينيا، وفائدة اقتصادية، ويدرّ عليها الأرزاق الكريمة، وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: ٣- ٤] .
لذلك كانت قريش- ما لم تتحدّ عقيدتها ولم تثر غيرتها الدينية أو القبلية- تؤمن بمبدأ «التعايش السلميّ» ، ولكنّها رغم كلّ ذلك كانت قوة حربية يحسب لها الحساب، وكانت شجاعتها مضرب المثل، وكانت مشهورة بالفروسيّة العربيّة، و «الغضبة المضريّة» معروفة في جزيرة العرب وآدابها وأمثالها.
ولم تكتف قريش بقوّتها الذاتية في الحروب، ولكنّها كانت تستخدم قوة الأحابيش، وهم بطون من القبائل العربيّة الضاربة حول مكّة، من كنانة وخزيمة بن مدركة، وخزاعة تحالفوا مع قريش، وكان لقريش عدد كبير من العبيد والموالي، الذين كانوا يقاتلون في صفوفها، فكانت تستطيع أن توجّه إلى القتال بضعة آلاف مقاتل، وقد استطاعت أن تجمع عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب. وهي أكبر قوّة حربية عرفها تاريخ الجزيرة العربية في العصر الجاهليّ.
[كبرى مدن الجزيرة وعاصمتها الروحية والاجتماعية:]
وبهذا المركز الدينيّ، والمكانة الاقتصادية، وقيادة النشاط التجاريّ، والتقدّم في المدنيّة والآداب، أصبحت مكّة كبرى مدن الجزيرة العربية، وبدأت تنافس صنعاء اليمن في زعامة الجزيرة، بل إنّها تفوقت عليها، بعد ما