وعزيز وأليف وأنيس وعن كلّ ما جبلت الطبائع السليمة على حبّه وإيثاره، والتمسّك به والتزامه، ولا يتنازل عنهما لشيء. وقد اقترن تاريخ الدعوات العظيمة والديانات القديمة بالحركة، حركة الأفراد أحيانا وحركة الجماعات أحيانا كثيرة.
وقد كانت مكة- فضلا عن كونها مولدا ومنشأ للرسول وأصحابه- مهوى الأفئدة ومغناطيس القلوب، ففيها الكعبة البيت الحرام الذي جرى حبّه منهم مجرى الروح والدم، ولكنّ شيئا من ذلك لم يمنعه وأصحابه من مغادرة الوطن، ومفارقة الأهل والسكن، حين ضاقت الأرض على هذه الدعوة والعقيدة، وتنكّر أهلها لهما.
وقد تجلّت هذه العاطفة المزدوجة- عاطفة الحنين الإنسانيّ وعاطفة الحبّ الإيمانيّ- في كلمته التي قالها مخاطبا لمكّة:«ما أطيبك من بلد وأحبّك إليّ، ولولا أنّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك»«١» .
وذلك عملا بقول الله تعالى:
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
[العنكبوت: ٥٦] .
[إلى غار ثور:]
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من مكة مستخفيين، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يتسمّع لهما ما يقول الناس فيهما بمكة، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهارا ويريحها عليهما ليلا، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام.
(١) أخرجه الترمذي [في أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: في فضل مكة، برقم (٣٩٢٦) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] .