والدنيا، فجعل الحياة كلّها عبادة، وجعل الأرض كلّها مسجدا، وأخذ بيد الإنسان من معسكرات متحاربة متصارعة، إلى جبهة واحدة واسعة من العمل الصالح، وخدمة الإنسانية النافعة، وابتغاء مرضاة الله، فترى هناك ملوكا في أطمار الفقراء، وزهّادا في زيّ الملوك والأمراء، جبال حلم وينابيع علم، عبّاد ليل وأحلاس خيل، من غير تناقض أو صعوبة، واختلال أو تعسّف.
٦- تعيين الأهداف والغايات وميادين العمل والكفاح:
المأثرة السادسة، أو الانقلاب السادس الذي أحدثه محمّد صلى الله عليه وسلم في الحياة البشرية، أنّه هدى الإنسان إلى محلّ لائق كريم يصرف فيه قواه، ورفعه إلى أجواء فسيحة عالية يحلّق فيها.
كان الإنسان قبل البعثة المحمديّة جاهلا لهدفه الحقيقيّ، لا يدري إلى أين يتّجه، وإلى أين المصير؟ وما هو المجال الأفضل والحقيقيّ لمواهبه وطاقاته وجهوده؟
إنّه وضع لنفسه مقاصد وهمية صناعية، وحصر نفسه في دوائر ضيقة محدودة، كانت تستنفد قواه وطاقاته وذكاءه، وكان المثل الأعلى عنده للرجل الناجح واللامع من يكون أكثر جمعا ومالا، وأوسع نفوذا وقوة، متحكّما في أكبر مجموعة من البشر، وأوسع بقعة من بقاع المعمورة.
كان هناك ملايين لم يزد طموحهم على التمتّع بألوان زاهية، وأصوات مطربة، وأطعمة لذيذة، وأكثر من تقليد البلبل في صوته، أو الطاووس في لونه، بل أكثر من مسايرة الماشية والغنم، والأنعام والدوابّ.
كان هناك آلاف عاشوا دائما بين بلاط الملوك، وحاشيتهم، وبذلوا نبوغهم وذكاءهم في التزلّف إلى الأمراء، والتملّق أمام الأغنياء، أو الخضوع للجبابرة