وكان ذلك أوّل يوم من أيام النبوّة، وأول وحي من القرآن «١» .
في بيت خديجة- رضي الله عنها-:
وفزع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه لم يعهده ولم يسمع به، وقد طالت الفترة، وعهد العرب بالنبوّة والأنبياء بعيد، وخاف على نفسه، ورجع إلى بيته ترتعد فرائصه وقال: زمّلوني، زمّلوني، لقد خشيت على نفسي.
وسألت خديجة- رضي الله عنها- عن السّبب، فقصّ عليها القصّة، وكانت عاقلة فاضلة، سمعت بالنبوّة والأنبياء والملائكة، وكانت تزور ابن عمّها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصّر، وقرأ الكتب، وسمع من أهل (التوراة) و (الإنجيل) ، وكانت تنكر من أهل مكّة ما ينكره أهل الفطرة السليمة والأذهان المستقيمة.
وكانت من أعرف الناس بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكانها منه، وعشرتها له، واطّلاعها على السرّ والعلانية، وقد رأت من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وشمائله ما يؤكّد أنّه الرّجل الموفّق والمؤيّد من الله، المصطفى من خلقه، المرضيّ في سيرته وسلوكه، وأنّ من كانت هذه أخلاقه وسيرته، لا يخاف
(١) الغريب الذي يسترعي انتباه الفلاسفة والمفكّرين في العالم، والمؤرّخين للديانات والحياة العلمية، هو ذكر «القلم» في هذا الوحي الأول، الذي ينزل على أميّ يبعث في أمّة أميّة في بلد تعذّر فيه وجود القلم، ولم يجاوز عدد «الكتاب» (وهم المتعلّمون) عدد الأنامل، فدلّ ذلك على ربط هذه الديانة والأمة التي تدين بها وتحملها، بالقراءة والكتابة والاستعانة بالقلم، ربطا دائما وثيقا، بخلاف ديانات كثيرة سابقة، وكان ذلك سرّ انبثاق حركة علمية تأليفية عالمية، لا يوجد لها نظير في تاريخ الديانات والأمم. وكذلك كان ورود آية عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: ٥] في هذا الوحي، حافزا على التوسع في آفاق العلم، والاكتشاف للمجهول، والترقّب للمزيد الجديد، وعدم إنكار حقائق علمية ثابتة لم تكتشف في العصور الماضية.